من بين قصص الألم المسافر في غزة، تبرز مأساة الأطفال، وعلى كل خد صغير متورد، جرح غائر، أو قصة ألم، أو بارقة صمود.

وللموت والأطفال في غزة عناق طويل، ما عاد الموت يخيفهم، ولا القنابل الحارقة ترهبهم، بل أكثر من ذلك ما عادت تشغلهم عن ألعابهم، لأنها أصبحت جزءًا من هذه الألعاب، وألحانًا في أناشيد البراءة، رغم أن الموت لم يفقد أيا من صفاته، فما زال كالحًا وقويًا، وخصوصًا إذا ما حملته رصاصة أو صاروخ تناثرت أجزاؤه من ركام منزل محطم.

مشاهد كثيرة لأطفال ورضع تهشمت رؤوسهم، وآخرين اخترقت الشظايا أجسادهم الصغيرة ومزقتها، بفعل القصف الهمجي التي طال منازل المدنيين في القطاع، حيث أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، ارتفاع حصيلة قتلى الغارات الإسرائيلية على القطاع منذ 7 أكتوبر الجاري، إلى 4385 فلسطينيًا، بينهم 1756 طفلًا و976 امرأة.

ويمثل استهداف المدنيين، وخاصة الأطفال انتهاكات جسيمة لاتفاقيات جنيف الرابعة وللبرتوكول الاختياري الثاني الملحق باتفاقيات جنيف، والتي توفر حماية للأطفال في النزاعات المسلحة، كونهم من المدنيين والفئات التي لا تشارك في الأعمال الحربية، وهي جرائم حرب وضد الإنسانية.

 

قتل الأطفال عقيدة صهيونية

حذف مكتب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، منشورًا إجراميًا بحق أطفال فلسطين الأبرياء على منصة إكس، كان عقب مجزرة جيشه في مستشفى المعمداني بقطاع غزة، مساء الثلاثاء الماضي.

وجاء بالمنشور إن “صراع إسرائيل مع حماس، بين أطفال النور وأطفال الظلام، وبين الإنسانية وشريعة الغاب”، وفق ما رصده موقع بزنس إنسايدر الأمريكي.

وكان المنشور اقتباسًا من خطاب نتنياهو أمام الكنيست، الاثنين الماضي، وجرى حذفه بعد تداعيات المجزرة الإسرائيلية في المستشفى المعمداني بغزة، والتي أسفرت عن استشهاد نحو 500 فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال.

لم تكن تصريحات نتنياهو زلة لسان عابرة، بل تعبيرًا عن عقيدة إجرامية متجذرة لها أصولها، فقد نشرت مجلة “مومِنت” (Moment) اليهودية الأمريكية في عددها الصادر لشهرَيْ مايو 2009، حوارا مع الحاخام الصهيوني “مانيس فريدمان” حول الطريقة المثلى لتعامل اليهود بفلسطين المحتلة مع جيرانهم من العرب، وقد أتت إجابة “فريدمان” صريحة قائلا: “.. إن الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية هي الطريقة اليهودية: دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم”.

حتى إن حاخام جامعة “بار إيلان” “يسرائيل هس” أعلن بوضوح أنه "لا ينبغي التساهل أو الرحمة مع “عماليق” هذا العصر (الفلسطينيين)، فيجب قتلهم حتى الأطفال الرُّضَّع منهم".

واستشهد منذ بداية انتفاضة الأقصى وحتى نهاية شهر مارس 2016 نحو 2070 طفلًا، وجرح أكثر من 13000 طفل فلسطيني. كما اعتقل الاحتلال أكثر من 12000 طفل فلسطيني في الفترة ذاتها.

وتؤكد المؤسسات الحقوقية أن إسرائيل اعتقلت منذ العام 1967 وحتى الآن ما يزيد عن 50 ألف طفل، بهدف التأثير النفسي على الأطفال وذويهم على حد سواء، كما أن هناك حوالي 160 طفلًا يقبعون في سجون الاحتلال.

وقال كبار المسؤولين الإسرائيليين "إن الحصار التام لقطاع غزة، حيث يشكل الأطفال نصف الـ 2.2 مليون نسمة، جزء من مساعي القضاء على حماس، ردًا على عمليتها في 7 أكتوبر ضد إسرائيل".

أطفال غزة وقود الجرائم الإسرائيلية | المحقق الأوروبي

أصغر شهيدة في غزة

نبيلة نوفل أصغر شهيدة في غزة، ولدت يوم السابع من أكتوبر، حين انطلق "الطوفان الغزي" تجاه الجدار الذكي وسحق المواقع العسكرية بقرى غلاف غزة، وفي يوم سابعها وقبل أن تحتفل أسرتها بعقيقتها، كانت شظية إسرائيلية تخترق جسدها الغض.

حلقت نبيلة كنياشين الشهادة وأغاريد الجنان، وأسلمت الروح الصغيرة لبارئها، لتأخذ موقعها ضمن أكثر من 1756 طفلًا غزيًا قضى الانتقام الإسرائيلي بإرسالهم زرافات ووحدانًا إلى أحضان الشهادة التي كانت ولا تزال جزءًا من يوميات البراءة وأحلام الطفولة في غزة، وإلى جانبهم أكثر من آلاف الأطفال الجرحى.

 

قصة الطفل رقم 101

واجه أطفال غزة ألوانًا منوعة من الموت القادم من كل مكان، وحصدت آلة الحرب الإسرائيلية مئات الأرواح الصغيرة، وتركت بصماتها شاهدة في حروق شديدة وجراح وبتر لأعضاء كثيرة من تلك الأجسام الغضة.

ووفق الأطباء الغزيين فإن نسبة كبيرة من الإصابات كانت في الأطفال، ونسبة كبيرة من الجراحات والحروق كانت مميتة وبالغة الخطورة.

وأظهرت العديد من الصور ومقاطع الفيديو التي تداولها الإعلام هشمًا لرؤوس الصغار، وشظايا تخترق البطون والقلوب الصغيرة، كما حطم الركام المتناثر من العمارات والبيوت التي دمرها القصف الصهيوني أجساد مئات الأطفال الصغار.

وبدا أن المأساة التي تستهدف الإنسان الغزي تركز في جانب أساسي منها على براعم الحياة، في مسعى للقضاء على جيل كامل من الأزاهير القابضة على جمر المقاومة، فمنهم من قضى وترك غصة الألم والفراق في نفوس والديه، ومنهم من جلس على الركام يبكي الأبوين والإخوة الذين قضى عليهم القصف، ولكلٍ قصةٌ دامية وذكرى لوعة وجرح فراق لا يندمل.

ومن بين المشاهد التي تصفع بكل عنف صمت العالم تظهر قصة الطفل رقم 101 الذي لم يُعرف ذووه، أهم من الأحياء أم من الشهداء، ليبقى شاهد مأساة، وعنوان مجزرة ينأى العالم عنها بصمته وتجاهله.

وفي مشهد آخر يتعلق طفل بجثامين أشقائه الذين قتلهم القصف، ويتجرع دمعه وألمه معربًا عن طلب وحيد "أريد فقط أن أقبلهم"، لتنتهي بذلك قصة بيت كان مفعمًا بالحب والحياة والإيمان.

وفي باقة دموية أخرى يظهر انتشال 3 أطفال مغبرين من الركام، يحتضن أحدهم كلبه الصغير في تمسك طفولي بحياة لا تريد لها إسرائيل أن تستقر ولا أن تستمر.

ورصدت مقاطع الفيديو المتداولة، مشاهد مأساوية تهزّ الضمير العالمي، عن ذبح أطفال فلسطين من تلك المقاطع «خبز اختلط فيه لعاب طفولي بدماء فتاة صغيرة، ربما لم يتجاوز عمرها 6 سنوات».. و«طفلة أخرى صماء تصرخ داخلها أصوات الألم، وتبحث بعناء عن أسرتها وقدماها تكاد تحملانها».. و«رضيع سكتت صرخاته إلى الأبد».. وطبيب في مستشفى دار الشفاء بغزة يحمل جثة «رضيع» شهيد لا أحد يعرف أسرته، ربما اختفت تحت الأنقاض.

 

"أنا بخير يا بابا خليك قوي"

ورغم ما يلحق بأجسادهم من الألم، وما يتجرعون من فراق الأمهات والآباء والإخوة والأصدقاء، فقد وثقت وسائل إعلام ومدونون فلسطينيون، مشاهد من الصبر الخارق لعادة الأطفال بل لعادات الكبار، ولم تفلح مشاهد الموت والرعب في كسرهم أو التقليل من صمودهم.

تتحدث ابنة أحد الشهداء وهي تمرر يديها على خصلات شعرها قائلة "يظنون أنهم كسبوا شيئًا بقتل أبي.. لقد طلب الشهادة ونالها.. وأقول لهم نحن أقوى منكم".

وفي مشهد آخر يواسي طفل غزي والده المصاب، رافعًا لمعنوياته مرددًا لا تخف يا أبي، وكن قويًا "ما تخافش يا بابا.. أنا بخير خليك قوي".

 

يكتبون أسماءهم على أيديهم

في مشاهد لم نر مثلها في العالم، كتب أطفال غزة وصاياهم، "طفلة توصي بتوزيع ملابسها على المحتاجين، وألعابها على أصدقائها".

وأمام مذابح الصهاينة التي لا تنتهي، يقوم أطفال فلسطينيون في غزة بكتابة أسمائهم على أيديهم، حتى يسهل التعرف عليهم إذا قتلوا مع جميع أفراد عائلاتهم في قصف عنيف ضمن حرب مدمرة.

هذا حال أطفال نازحين من منازلهم في مجمع الشفاء الطبي - أكبر مستشفيات قطاع غزة – قرروا كتابة أسمائهم على أيديهم، في ظل الغارات الإسرائيلية المكثفة المستمرة على غزة.

واتخذ الأطفال الفلسطينيون هذه الخطوة لوجود العديد من الشهداء الذين لم يتم التعرف عليهم، وخاصة الذين استشهدوا في المستشفى المعمداني بمدينة غزة الذي شهد مساء الثلاثاء الماضي مجزرة مروعة استشهد فيها نحو 500 فلسطيني إثر غارة إسرائيلية، بحسب حصيلة لوزارة الصحة في القطاع.

وفي مستشفى الشفاء بغزة يكتب أحمد أبو السبع (35 عامًا) اسمه وأسماء الأطفال من أبنائه وأقاربه على أيديهم.

وقال أبو السبع "نكتب أسماءنا على أيدينا وأسماء أبنائنا على أيديهم للتمكين من التعرف على جثثنا لو قصفتنا طائرات الاحتلال".

وأضاف أن هناك العديد من الشهداء وخاصة الأطفال يصعب الوصول لذويهم، مشيرًا إلى أن الاحتلال لا يميز بين أحد ويقصف في كل مكان.

لحظات انتظار الموت في غزة.. أطفال كتبوا وصاياهم وأمهات ارتدت ملابس النهاية

مليون طفل في غزة بحاجة للحماية

ووفق اليونيسيف فإن "الصور والقصص واضحة: أطفال يعانون من حروق مروعة، وجروح بالقذائف، وفقدان أطراف. والمستشفيات مرهقة بشكل تام لعلاجهم. ومع ذلك، تستمر الأرقام في الارتفاع".

وصرحت الممثلة الخاصة لليونيسف في فلسطين، لوتشيا إلمي، لـ"الجزيرة.نت": " مليون طفل في قطاع غزة بحاجة عاجلة للحماية".

منظمات حقوقية دولية، تحدثت عن "جريمة حرب"، يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، عبر العقاب الجماعي للسكان، ودعت إلى رفع الحصار الذي يعرض حياة المدنيين الفلسطينيين إلى أخطار جسيمة، ورغم ذلك لم تخرج أي دولة غربية لإدانة ما يحدث، بل تواصل أمريكا مد إسرائيل بالسلاح، استعدادًا لاجتياح بري، تريده إسرائيل لتنتقم من حماس، وتتمناه حماس والمقاومة لتلقن إسرائيل درسًا لن تنساه أبدًا.