كشفت الانخفاضات المتتالية للجنيه مدى عمق مشكلات مصر الاقتصادية، ورصدت ذلك بنوك ومنصات إعلامية دولية ومنها بنك (جولدمان ساكس) وقناة "CNBC" الأمريكية، اللذين أكدا أن الجنيه المصري يتراوح بين المرتبتين السادسة والخامسة بين أسوأ العملات حول العالم أداء في عام 2023، مرجحين أن ينخفض أكثر خلال الشهور اللاحقة، بعدما فقد أكثر من نصف قيمته خلال عام 2022.

وقال تقرير (سي إن بي سي) إنه "بينما لا تزال التوقعات قاتمة للجنيه، لفت التقرير إلى أن معدل التضخم الرئيسي في مصر قفز في فبراير الماضي لأعلى مستوى له منذ أكثر من خمس سنوات، حيث ارتفع بنسبة 31.9% على أساس سنوي مدفوعاً بارتفاع أسعار المواد الغذائية، والتي تفاقمت بسبب الحرب في أوكرانيا، لكن محللين يتوقعون أن النسبة أعلى من ذلك، ويشيرون إلى 40.26%".

 

مزيد من انهيار الجنيه 

وحذرت من أن الجنيه في طريقه للانهيار أكثر ليفاقم المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها أكبر دولة في الشرق الأوسط من حيث عدد السكان، وفقًا لاستطلاعها آراء خبراء.

ونقلت عن الباحث الاقتصادي فاروق سوسة، تقريرا نشره في 9 مارس الماضي، أن "مسار التضخم المتزايد يزيد الضغط على الجنيه المصري، الذي ظل ثابتًا نسبيًا منذ تخفيض قيمة العملة في أوائل يناير على الرغم من المؤشرات الواضحة على استمرار نقص السيولة في العملات الأجنبية".

واعتبارًا من نهاية مارس الماضي، احتلت الليرة اللبنانية المرتبة الأولى بين العملات الأكثر اضطرابًا منذ بداية العام، حيث انخفضت قيمتها بنسبة تصل إلى 70%، يليها البوليفار الفنزويلي، والدولار الزيمبابوي، ثم الريال الإيراني، والجنيه المصري.

وقال "سوسة":  "خطر حدوث مزيد من الضعف في الجنيه في المدى القريب لا يزال مرتفعا، لا سيما بسياق المراجعة الأولى في إطار برنامج صندوق النقد الدولي"، مرجحا ارتفاع التضخم إلى ذروته عند حوالي 36% في الربع الثالث، إذا لم يكن هناك المزيد من التخفيضات".
وعلق سوسة، في تقرير يوم 31 مارس، على رفع البنك المركزي في مصر لسعر الفائدة ومن ثم سعر العملة الرئيسية (الدولار) وخفض (الجنيه) أن "الزيادة صغيرة جدا بحيث لا تحفز تدفقات كبيرة لرأس المال، وبالتالي من غير المرجح أن تخفف الضغط على الجنيه أو تخفف من مشكلات ندرة العملات الأجنبية التي يواجهها الاقتصاد".

ورفع المركزي المصري، في 30 مارس، سعر الفائدة بواقع 200 نقطة أساس (2%)، في ثاني اجتماعاته منذ بداية 2023، ورفع سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي بواقع 200 نقطة أساس ليصل إلى 18.25%، و19.25%، و18.75% على التوالي.

 

العجز المالي

وعن قرض صندوق النقد الدولي الذي وافق بمنحه لمصر في ديسمبر الماضي وقيمته 3 مليارات دولار، لفتت "CNBC" إلى أنه لإنقاذ الاقتصاد المصري المتعثر؛ مستدركة أن القرض يتوقف على التزام الدولة بالإصلاح الاقتصادي على مدى السنوات الأربع المقبلة، ومن ذلك (تبني سعر صرف مرن للجنيه).

وفي يناير الماضي، توقع الصندوق أن يبلغ العجز المالي في مصر 17 مليار دولار على مدى السنوات الأربع المقبلة؛ تشير الفجوة المالية إلى مقدار النقد الأجنبي الذي يحتاجه بلد ما لسداد ديونه.

ومن جانب ثاني توقع سيمون بالارد من "بنك أبوظبي الأول" في تقرير بتاريخ 29 مارس: أن يرتفع التضخم أكثر في مصر في الأشهر المقبلة.. نتوقع من البنك المركزي إعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي على الدفاع عن الجنيه".

وطالب أنجوس بلير، الرئيس التنفيذي لمعهد "Signet"، مصر ب"المضي قدمًا بسرعة لإجراء تغييرات"، مضيفا "نحن بحاجة إلى أن نرى قدرًا أكبر من الحذر وأن نراقب أين يتم إنفاق رأس المال على مشاريع بنية تحتية محددة".

وعن الإنفاق الحكومي، نضح أن "تكون هناك عين أكبر على ذلك لإعطاء الأولويات بشكل أفضل".



بين أسوأ العملات 
ومن جانب ثان، أكد بنك جولدمان ساكس الامريكي في تقرير له توقعه انخفاض الجنيه المصري أكثر خلال الشهور اللاحقة، مضيفا في التقرير أن الجنيه من بين أسوأ العملات أداء في عام 2023.
 وقال إن مصر تواجه خيارا صعبا بين تسريع في وتيرة الإصلاحات الاقتصادية أو مواجهة المزيد من "التعديل المؤلم"  في شكل انخفاض في قيمة العملة المحلية وتقليص الواردات قد تؤدي إلى زيادة التضخم وعرقلة النمو!
واستدرك التقرير موضحا أن "التعديل الخارجي الحاد" الذي رأيناه في العام الماضي لم يكن كافيا للتخفيف من اختلال ميزان المدفوعات للبلاد.
واعتبر أن من آثار الاختلال انخفاض قيمة الجنيه بأكثر من 50% منذ مارس 2022، كما انخفضت الواردات، فيما ارتفعت معدلات التضخم وأسعار الفائدة، وتباطأ النمو.
وأوضح أن اختلال ميزان المدفوعات على الاقتصاد، يعني أن الطلب على العملات الأجنبية لا يزال يفوق المعروض وأن سعر الصرف في السوق الموازية لا يزال في ارتفاع - مع آثار ضارة محتملة على الاقتصاد.
 

الخطر الرئيسي
ورأى جولدمان ساكس الأمريكي أنه من الصعب كبح الطلب على السلع الأساسية مثل المواد الغذائية التي تشكل جزءا كبيرا من واردات البلاد؛ ولا تزال الصادرات، وربما التحويلات من المصريين بالخارج أيضا، ضعيفة؛ كما أن تراكم الطلب على العملات الأجنبية لم يتم تسويته بعد؛ مشددا أن الخطر الرئيسي هو أن تدخل مصر في "حلقة مفرغة" من انخفاض العملة والتضخم.
واستدرك التقرير أن الحل هو الصادرات، وأداء مصر على صعيد الصادرات ليس بالجيد مثل إجمالي صادرات البلاد بما في ذلك الهيدروكربونات 10% فقط من الناتج المحلي الإجمالي خلال الخمسة أعوام حتى الجائحة، فيما بلغت 37% في عينة الأسواق الناشئة لدى جولدمان ساكس. وقال البنك: "العجز التجاري ناتج عن تراجع الصادرات، وليس الاستيراد".
وتوقع البنك الأمريكي أن يؤثر ذلك على قدرة البلاد على خدمة ديونها الخارجية، مما يضر بثقة المستثمرين، ويضغط على النمو، إذ يؤدي نقص الواردات وارتفاع الأسعار إلى تدمير الطلب في الاقتصاد المحلي.

وأشار إلى أن معالجة الاختلالات الخارجية لمصر تعني معالجة العجز التجاري الهيكلي الذي يمثل 10% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعد أحد أكبر النسب بين الأسواق الناشئة الرئيسية.

ورأى البنك أن الدولة بحاجة إلى تسريع وتيرة انتقالها إلى سعر صرف أكثر مرونة، إلى جانب زيادة الصادرات وخفض الإنفاق الحكومي عن طريق إبطاء تنفيذ المشاريع القومية العملاقة، ومواصلة برنامجها لبيع الأصول في الشركات المملوكة للدولة.


بيع الأصول

ونصح "جولدمان ساكس" "الحكومة" بأن تكثف "جهودها في تنفيذ أجندة الإصلاحات الطموحة، مما يعزز تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة وتقليص عجز الحساب الجاري تدريجيا من خلال دعم نمو الصادرات بشكل أكبر على المدى المتوسط"، بحسب التقرير.
وفي هذا السيناريو تندرج مبيعات الأصول والوصول إلى الأسواق، والتي توقع جولدمان ساكس زيادة الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير إلى 14 مليار دولار سنويا في المتوسط على مدى السنوات الثلاث المقبلة (ضعف المتوسط التاريخي)؛ وزيادة تمويل سوق المال إلى 6 مليارات دولار سنويا على مدى السنوات الثلاث المقبلة، مقسما بين تدفقات المحافظ الواردة والإصدارات السيادية؛ وتقلص عجز الحساب الجاري إلى 2.6% بحلول العام المالي 2026/2025، من 3.5% في العام المالي الحالي، كما يرى "ساكس".