يعاني سوق صرف الدولار في مصر من السوق الموازية (السوداء) التي أعطت سعرًا مغايرًا ومرتفعًا للدولار في مصر عن السعر المعلن من البنوك المصرية الرسمية والأجنبية.

 ومنذ مارس من العام الماضي تشهد سوق الصرف في مصر حالًا من الاستقرار، إذ تسبب خروج أكثر من 22 مليار دولار من الأموال الساخنة خلال الربع الأول من العام الماضي في حدوث أزمة عنيفة مع شح الدولار، وتسببت الأزمة في تكدس بضائع في الموانئ المصرية بقيمة 14 مليار دولار، لكنها انتهت بشكل كامل خلال الأيام الماضية مع إعلان مجلس وزراء حكومة الانقلاب الإفراج عن بضائع بقيمة 14.5 مليار دولار منذ بداية ديسمبر الماضي.

وسجل الدولار مستوى يلامس الـ 40 جنيهًا في تعاملات السوق السوداء خلال الأسبوع الأخير من العام الماضي، ثم واصل النزول مع ارتفاع حجم المعروض وانهيار طلب المستثمرين وشركات الاستيراد على دولار السوق الموازية، ليسجل في الوقت الحالي مستوى 30.50 جنيه بنسبة تراجع بلغت نحو 19.7 في المئة، وفقًا لـ"إندبندنت عربية".

 

تاريخ السوق السوداء في مصر

السوق السوداء ليست ظاهرة حديثة، وظهرت للمرة الأولى بعد حرب 1967 وما تلاها من حرب الاستنزاف وصولًا إلى حرب أكتوبر 1973، إذ شهدت مصر نقصًا شديدًا في العملات الأجنبية، وكانت هناك مشكلة كبيرة في الاستيراد بسبب النقد الأجنبي المحدود لدى الدولة، مما أنعش السوق السوداء لتلبية احتياجات تلك الواردات، ومنذ ذلك الحين أصبحت السوق السوداء واقعًا داخل الاقتصاد المصري.

خلال تلك العقود، لم تتوقف أو تهدأ تعاملات السوق السوداء، إلا خلال فترات قصيرة عند وجود ثبات في سعر صرف العملة، وعند قيام المركزي بدوره في منح الأفراد والشركات حرية الحصول على النقد الأجنبي، وكانت تلك الفترات بين عام 1991 وعام 1997، وبين عامي 2005 و2009، وخلال النصف الثاني من عام 2017 حتى عام 2020، وبخلاف تلك الفترات كان نشاط السوق السوداء سائدًا، وفقًا لـ"رصيف 22".

ونجد في منتصف الثمانينيات أن مصر كانت تواجه أزمة حقيقية في توفير العملة الصعبة، وهو ما يتناقض مع الزيادة الكبيرة في أموال العاملين المصريين القادمين من دول النفط بفضل انتعاشة اقتصاد الدول التي يعملون بها، إلا أنهم كانوا يفضلون ادخارها كدولارات "تحت البلاطة" كما يقال، أو بيعها لتجار العملة في السوق الموازي، حتى إن البنوك المصرية كانت تلجأ إلى تجار السوق الموازي لتدبر لها احتياجاتها من الدولارات، من أجل تسديد ديونها، ويروى أن البنك المركزي المسؤول عن سك النقود، كان يذهب عن طريق وزارة الداخلية إلى سامي حسن إمبراطور تجارة العملة في السوق السوداء، من أجل استيراد شحنات قمح عاجلة، لا يستطيع المركزي تلبية قيمتها بالدولار!

 

استحواذ السوق السوداء على الدولار

استطاعت السوق الموازية (السوداء) الاستحواذ على تعاملات المصريين منذ مارس الماضي بعد أن تخلى البنك المركزي عن سياسة "التعويم المدار" ودعم الجنيه من خلال توفير الدولار للبنوك والمستوردين.

وخسرت حكومة الانقلاب جميع رهاناتها على جذب أموال المستثمرين في الخارج مجددًا بعد أن هرب ما قيمته 22 مليار دولار رغم خفض العملة المحلية، كما أخفقت في عودة تغيير واستبدال العملة من البنوك المحلية مع اتساع الفرق في السعر إلى أكثر من ما بين 15% و30% في بعض الفترات المضطربة.

ويقول مراقبون ومحللون إن الحكومة المصرية تناست أن جزءًا كبيرًا من أزمة الدولار يكمن في نقصه وليس المضاربة عليه حيث يوجد أكثر من سوق موازي للذهب والسيارات والمستوردين وتحويلات المصريين من الخارج، وفقًا لـ"عربي21".

 

الحكومة السبب

وأشار متعاملون في السوق الموازي إلى أن "الدولار لامس حاجز الـ 40 جنيهًا وقاموا بالبيع والشراء عند مستوى 38 جنيهًا قبل أن يقوم المركزي بخفض الجنيه إلى 32 جنيهًا في محاولة للاقتراب من السوق الموازي ومحاصرته وهو ما أدى إلى حدوث ارتباك في السوق السوداء لحين اتضاح الرؤية".

ويضيف أحدهم "كان الضوء الأخضر من الحكومة واضحًا للجميع ما يؤكد أن هناك جهات ورجال أعمال وقيادات كانوا يجمعون عبر سماسرة كبار وصغار العملات الأجنبية بأي سعر؛ لأن كان لديهم معلومات تؤكد قيام البنك المركزي بخفض الجنيه إلى أكثر من 30 جنيهًا، بالتالي فرحلة الشراء امتدت من 16 جنيهًا إلى 30 جنيهًا كان مربحة للغاية".

ويقول أحد تجار الذهب ويدعى جورج كمال بحي العجوز بالجيزة: "نحن كتجار ذهب لا نقر بالسعر الرسمي لأننا لا نستطيع الحصول عليه بهذا السعر وبالتالي نشتري الذهب الخام من الخارج من خلال مستوردين يقومون بدورهم بجمع الدولار بأسعار أعلى من سعر البنك وهو الآن يتجاوز 33 جنيهًا، عندما يتوفر الدولار سيتوقف السوق الموازي، هذا السوق لا يظهر وحده أو من تلقاء نفسه إنما بفعل فاعل أي سياسات خاطئة".

 

استحواذ السوق السوداء على تحويلات المصريين

ويرى الباحث محمد سلطان في مقاله المنشور قي كتاب "الاقتصاد المصري في القرن الواحد والعشرين" أن "المصريين العاملين في الخارج ينطبق عليهم مواصفات تجار السوق السوداء، وهو ما يظهر في سلوكهم في أوقات الأزمات الاقتصادية التي تعاني فيها الدولة من نقص العملة الأجنبية، وبالرغم من أنهم ليسوا خبراء ماليين، وقراراتهم غير مرتبطة بفهمهم للأساسيات الاقتصادية للدولة، ولكن عند قيام الحكومة بتخفيض قيمة العملة وانتشار الأنباء عن شح الدولار في الجهاز المصرفي، يدركون بالبداهة أهمية العملة الصعبة التي في أيديهم، ويفضلون الاحتفاظ بها".

وعلى الرغم من أن العملات الصعبة التي تكون في حوزتهم ترتفع قيمتها أمام الجنيه، ومن المفترض أن يغريهم الأمر لزيادة تحويلاتهم إلى النظام المصرفي، ولكن الأرقام والبيانات تثبت عكس ذلك، إذ يدفعهم عدم استقرار سعر صرف الجنيه إلى الاحتفاظ بالعملة الصعبة لديهم بعيدًا عن النظام المصرفي، بهدف الادخار وتكوين مخزون منها أو يقومون ببيعها للسوق السوداء التي تمنحهم سعرًا أكبر من نظيرتها الرسمية. إذ أن تنازل العاملين بالخارج عن الدولار للجهاز المصرفي في أوقات استقرار سعر الصرف هو 75% بينما تنخفض النسبة إلى 5% عند أزمات سعر صرف العملة بحسب بيانات المركزي للسنوات السابقة، وهو ما نراه أثناء الأزمة الحالية.

ومع حصار عمل شركات الصرافة رسميًا في الداخل، انتقل عملها إلى النشاط السري بين مصر ودول الخليج التي يتركز فيها معظم المصريين العاملين بالخارج، إضافة إلى تجار العملة الذين يشترون من هؤلاء العاملين العملة الصعبة بأعلى من السعر الرسمي، مقابل تسليم المبلغ بالجنيه لذويهم في الداخل، ليتسرب جزء كبير من هذه التحويلات من النظام المصرفي إلى السوق السوداء.

بهذا، يشترك المصريون في الخارج وتجار العملة في حرمان الاقتصاد الوطني من أكبر مصدر للموارد الدولارية. ونجد أن تحويلات المصريين العاملين بالخارج سجلت تراجعًا بقيمة 500 مليون دولار من يناير حتى نهاية أغسطس 2022 لتسجل نحو 20.9 مليار دولار مقابل نحو 21.4 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام السابق.

 

كيف نسيطر على السوق السوداء؟

واستبعد الخبير الاقتصادي واستشاري تمويل المشروعات علاء السيد، وقف نشاط السوق الموازية بالطرق التقليدية وعلى رأسها القبضة الأمنية وملاحقة المتعاملين وبث الرعب في الأسواق، قائلًا: "القضاء على السوق الموازي لا يكون بالقبضة الأمنية، لا يمكن معالجة المشاكل الاقتصادية والنقدية بالقبضة الأمنية كما يتم التعامل مع المشاكل السياسية لأنها ستولد عدم ثقة وعدم استقرار".

ورأى أنه "حتى نسيطر على سوق التعاملات غير الرسمية فيجب البحث بكل بساطة في أسباب وجودها، وهي زيادة الطلب وتراجع المعروض، هناك إجراءات يجب اتخاذها على المدى القصير وأعتقد أن الحكومة أخذت ببعض منها للحد من هروب الدولار"، وفقًا لـ"عربي21".

لكنه أكد أن "من المهم تشجيع القطاع الخاص وزيادة الصادرات وتنمية السياحة والاستغلال الأمثل لثروات البلاد؛ لأنها هي الموارد الحقيقية للدولار التي تساعد الدولة في توفير العملة الأجنبية وبالتالي ارتفاع قيمة الجنيه، الأمر مرهون بتدفقات دولارية لتلبية الطلبات والاحتياجات، واحتكار الدولة بما فيه الجيش على مفاصل الاقتصاد سيعطل عودة الثقة للاقتصاد، ولا أتصور أن الحكومة قادرة على وضع حلول طويلة الأمد هي تعتمد على المسكنات والحلول المؤقتة".