لا يزال مشهد عصر يوم 28 يناير 2011، هو الأبرز والأهم في تاريخ ثورة 25 يناير طيلة الـ12 عامًا الماضية من عمر الثورة المجيدة التي مازالت تبحث عن ثوارها، الذين جعلوا جحافل الشرطة تهرول أمامهم كاتبين تاريخا يتوارثه الأجيال من جيل لآخر.

 

الحشد الثوري الذي أجبر رجال حبيب العادلي في الفرار أمامهم  من فوق جسر قصر النيل بالقاهرة، ودفعهم للهرولة أمامهم بعدما تصدى آلاف المتظاهرين لعناصر الشرطة عند اتجاههم إلى ميدان التحرير، وما تلاه من مشاهد تناقلتها كاميرات الإعلام والمشاركين في تظاهرات هذا اليوم لبعض رجال الشرطة ينزعون سراويلهم وملابسهم الرسمية خشية الصدام مع الشباب الثائر، كلها مشاهد حفرت بالذاكرة تأبى النسيان.

 

وفي اليوم الثالث من الثورة المباركة يوم 28 يناير 2011 ليطلق عليها إعلاميًا، جمعة الغضب، حيث كانت أكثر الأيام شراسة، حينها لتغير المسار بأكمله، فلم تعد الشعارات تتعلق بإقالة وزير الداخلية أو الحكومة، فالانتهاكات الشرطية كانت المحرك الأبرز لخروج تلك الجموع الغفيرة، لكنها قفزت إلى المطالبة بإسقاط النظام، وكانت الشرارة الأولى عمليًا لتنحي مبارك في 11 فبراير.

وفي الذكرى الـ 12 لجمعة الغضب، ونحن في هذا اليوم الذي كان بداية انطلاق الثورة الفعلية،قد رجعنا إلى ما قبل عصر هذا اليوم منذ الانقلاب على الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي وكأن الشرطة لم تستوعب الدرس جيدًا، فرغم يقينها بأنها أحد الأسباب الرئيسية وراء الاحتقان الشعبي الذي دفع للخروج والثورة، لكنها لم تغير سياساتها وإستراتيجيتها، الأمر الذي أثار مخاوف البعض من احتمالية أن تقود هي ذاتها الشارع إلى ثورة جديدة في ظل التغول الواضح على حقوق الشعب والانتهاكات التي لا تتوقف بحقه دون سند قانوني أو قضائي، بجانب الأوضاع الإقتصادية الصعبة التي يعيشها المصريين.

 

الشرطة ما قبل جمعة الغضب

قبيل انطلاق ثورة 25 يناير كانت العلاقة بين الشرطة والشعب في أوهن مراحلها، إذ كان المرور بجوار أي قسم للشرطة مغامرة، والعبور من كمين متمركز حياة جديدة تكتب لصاحبها خاصة إن كان من أبناء الطبقة المحدودة، وكان الدخول إلى المراكز الشرطية مسألة تحتاج إلى حسابات دقيقة وصلاة استخارة أحيانًا، فحتى إن كانت الزيارة لتقديم شكوى أو بلاغ أو البحث عن حق ضائع فربما لا تخرج أصلًا.

ووثقت المنظمات الحقوقية ومنصات التواصل الاجتماعي لانتهاكات شرطية بالجملة داخل الأقسام والمراكز، ولعل واقعة "عماد الكبير" أحد أقبح تلك الانتهاكات، هذا السائق الذي تعرض للتعذيب من أحد ضباط قسم بولاق الدكرور بالجيزة 2006، الذي قام بتصويره، لينتشر المقطع محدثًا ضجة كبيرة لدى الشارع المصري.

 

وكان المواطنين يتركون ويتنازلون عن حقوقهم خشية الاقتراب من رجال الشرطة للمطالبة بمظلوميتهم، ما حول الجهاز برمته - رغم دوره المحوري في الحفاظ على الأمن - إلى "دراكولا" الشعب و"شيطان" يحتاج إلى إرادة إلهية لمواجهته.

 

ومع تعاظم تلك الانتهاكات التي وصلت إلى حد لا يحتمل، وتفاقم الوضع المعيشي الذي يزداد تدنيًا يومًا بعد الآخر، مع الفساد الذي عشش في أركان الدولة، كانت البيئة مواتية تمامًا للحظة الانفجار، حيث الخروج ابتداءً للمطالبة بإقالة وزير الداخلية بسبب الانتهاكات، وكان هذا المطلب مرضيًا إلى حد ما للشارع إذا ما تم الالتزام به.

 

ومع تكبر وعناد مبارك الذي جعل الشرطة يتعاملون مع الجموع التي خرجت في جمعة الغضب كـ"جرذان" يجب قتلها، وتوجيه التعليمات المباشرة بالاستهداف المباشر للمتظاهرين وسقوط العشرات على مرأى ومسمع من الثوار، كان له مفعول السحر في تغذية الروح الانتقامية لدى المواطنين، فكان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو الشعار الذي تحول إلى عقيدة ما استطاع مبارك ولا جهازه الشرطي العنيد الصمود أمامه طويلًا، ليسقطا معًا في أقل من 18 يومًا.

 

الشرطة بعد الانقلاب على الرئيس مرسي

ومع إعلان المجرم عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو 2013 انقلابه على النظام الشرعي للرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي، مجمدًا العمل بالدستور، ليعود جهاز الشرطة إلى ما كان عليه أيام مبارك، لكن بشكل أكثر شراسة، حيث سيطرت الروح الانتقامية على القانون والدستور، وبات التحرك بشكل أكثر فردية في استعادة هيبة الشرطة في أسرع وقت ممكن.

ومنذ 2013 وحتى اليوم، تملأ السجون والمعتقلات بآلاف سجناء الرأي من النشطاء والساسة والصحفيين والمواطنين العاديين، (تقدرها بعض الجهات الحقوقية بأكثر من 60 ألف معتقل) فضلًا عن الانتهاكات التي تمارس بحقهم داخل مقار الاحتجاز، ما تسبب في وفاة العشرات منهم بسبب التعذيب والإهمال الطبي، فيما يعاني أضعافهم من أمراض مزمنة على قوائم الموت البطيئ.

ووضعت الدولة حزمة من القوانين واللوائح الجديدة التي تحمي رجال الشرطة من الملاحقات القضائية والمحاسبة فيما يتعلق بالانتهاكات المرتكبة، ليختلط العام بالخاص، الأمر الذي زاد من الفجوة عما كانت عليه قبل 12 عامًا، لتخلق حالة خصومة فجة بين رجل الأمن والمواطن العادي، خصومة تغلفها منصة تشريعية وقانونية تزيد من اشتعال النيران تحت فوهة البركان الخامل.