نواصل المسيرة في إبراز أهم المحطات في حياة العالم المجاهد الدكتور يوسف القرضاوي من خلال مذكراته "ابن القرية والكتاب .. الجزء الرابع"،  حيث تناولنا في الحلقات الماضية المحن التي مرت على العلامة منذ بداية تكوينه ونشأته ومرورًا بإعداده لحمل هم الدعوة الإسلامية وحمل مشاق الطريق، وصولا إلى العالمية، ونتحدث عن هذه الحلقة عن دور الشيخ في التصدي لجماعات التكفير والتطرف بكل حكمة بالمنطق والرسائل التي تمس القلوب، وكيف تجاوب معه آلاف من الشباب الذين انساقوا وراء هذه الأفكار الهادمة.

وتحدث العلامة في المجلد الرابع عن نحو 18 عامًا من هذه السيرة والمسيرة: ووصفها بأنها سنوات حافلة بالأحداث على المستوى الشخصي، والمحلي والعربي والإسلامي والعالمي.

في مقدمة المجلد الرابع لذكريات "ابن القرية والكتاب"، قدم الدكتور يوسف القرضاوي ملخصا عن أحداث 18 عاما عايشها الشيخ، فعلى المستوى الشخصي، قال: "تخرج كل أبنائي. وتزوج كل بناتي. وأمسيت جدًّا لعدد من الأحفاد والحفيدات كلهم من بناتي، وعينت عميدًا لكلية الشريعة ومديرًا لمركز بحوث السنة والسيرة. ونجحت في الدعوة إلى تأسيس الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت. وعملت رئيسًا لهيئة الرقابة الشرعية لعدد من المصارف الإسلامية. كما اخترت عضوًا في المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وعضوًا في المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن «مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي» وعضو مجلس أمناء مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، وعضو مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية بالخرطوم، وغيرها. كما حصلت في هذه الفترة على بعض الجوائز العالمية".

 

أحداث جسام

ويواصل: "على المستوى العربي والإسلامي، انتصرت ثورة الإمام الخميني في إيران، وقامت الحرب العراقية الإيرانية، ووقع غزو صدام حسين للكويت، وانتصرت ثورة الإنقاذ في السودان، وقام أول حزب سياسي إسلامي رسميَّا في الجزائر «حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وانتصر المجاهدون الأفغان على الاتحاد السوفييتي، وكان ذلك من أسباب انهيار هذا الكيان الكبير، ولكن الأفغان الذين انتصروا على السوفييت لم ينتصروا على أنفسهم، وكما قلت لهم: لقد أحسنتم أن تموتوا في سبيل الله، ولم تحسنوا أن تعيشوا معًا في سبيل الله!

وفيها بدأت مسيرة الدعوة إلى السلام أو الاستسلام مع إسرائيل، ابتداء بـ «كامب ديفيد» وانتهاء بأوسلو. وبدأ كثير من العرب يقتربون - سرًّا أو علنًا - مع إسرائيل.

وفيها انتشرت جماعات «الجهاد» التي ترى فرضية استخدام العنف في مقاومة الحكام، واغتيل الرئيس المصري أنور السادات على يد إحداها.

وفيها انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى في فلسطين، وظهور أطفال الحجارة، الذين يقاومون دبابات العدو مصفّحاته بقذف الحصا والحجار.

وفيها أُسِّست حركة المقاومة الإسلامية «حماس» في فلسطين، مولودة من رحم الإخوان المسلمين في فلسطين، كما أسست ذراعها العسكري «كتائب عز الدين القسام».

واشتدّ ساعد الصحوة الإسلامية في الجزائر، واتَّسع نطاقها، واكتسح الإسلاميون فيها الانتخابات التشريعية، وعُطِّلت نتائجها، وقبض العسكر على أزمّة الحكم، وكانت فتنة عارمة في البلاد بين الحكومة العسكرية والمسلحين الإسلاميين.  وتفوقت في تركيا الحركة الإسلامية التي يقودها الرجل الأكاديمي المصلح المناضل د. نجم الدين أربكان، لينقل المسيرة إلى مرحلة جديدة، بعقلية جديدة.

وفي باكستان ظهر الجنرال ضياء الحق، القائد الذي أعلن ولاءه للإسلام وشريعته وقيمه، فأبت الصليبية الغربية إلا أن تخطط لاغتياله.

وتوفي الإمام ابو الأعلى المودودي، وخَلَفه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، قادوا مسيرة الدعوة وسط التيارات الهائجة والأمواج المتلاطمة.

كما انتشرت دعوة الإخوان المسلمين في نحو سبعين قطرًا في أنحاء العالم.  ونشطت الدعوة السلفية في أقطار شتى، يسندها النفوذ السعودي والمال السعودي، ونشاط الدعاة السعوديين، وغير السعوديين، وإن كانت في داخلها قد انقسمت إلى اتجاهات مختلفة من ناحية تبني العنف أو عدمه، ومن ناحية التعامل مع الآخر.

وعلى المستوى العالمي، انتهزت أمريكا فرصة غزو الكويت لتقود تحالفًا دوليًّا ضد العراق، لتضرب أقوى جيش في المنطقة يهدد إسرائيل، بعد أن أخرجت جيش مصر من المعركة نهائيا باتفاقية «كامب ديفيد». ودخلت أمريكا المنطقة عسكريًّا وسياسيًّا بطلب حكامها، لتستقر فيها ولا تخرج منها، إلا أن يشاء ربي شيئًا. وقام الاتحاد الأوربي وأصبح حقيقة واقعة، على حين بقى العرب والمسلمون شراذم، وقد تفرقوا شيعًا وأحزابًا، كل حزب بما لديهم فرحون".

 

الشيخ الطائر!

ويضيف العلامة الراحل: " تميزت هذه السنوات بأمرين لهما أهمية قصوى في حياتي:

الأول: الانتشار الكبير لي في أنحاء العالم في الشرق والغرب، وزيارة كل قارات العالم حتى أستراليا، وأمريكا الجنوبية، حتى سمّاني بعض الزملاء في ذلك الوقت: الشيخ الطائر! والحقيقة أني كنت دائم الأسفار والتجوال من بلد إلى آخر، فلا أكاد يستقبلني أهلي إلا وهم يستعدون لوداعي.

والثاني: ظهور المد الإسلامي أو الصحوة الإسلامية بقوة في تلك المرحلة، وقد كنت أعتبر هذه الصحوة جزءًا مني، كأنما هي ولدي وفلذة كبدي، وكنت حريصًا أبلغ الحرص على حسن نمائها: إيمانيًّا وفكريًّا وخلقيًّا، وألا تُغذَّى بأغذية ضارة أو ملوثة وأن يقود زمامها من يملكون الحكمة والبصيرة، إلى جانب التقوى والأمانة، وكنت أقول دائمًا: أخشى على الصحوة أن تتآكل من الداخل قبل أن تُضْرَب من الخارج.

ومن خلال هذه المذكرات سيمرّ القارئ بمعظم أحداث العصر في منطقتنا العربية والإسلامية، بحكم أني أعيش في قلب هذه المنطقة، وقلب هذه الأحداث، وقد قدر لي في هذه المرحلة أن أتفاءل بها ومعها متأثرًا ومؤثرًا، ولذلك يصعب أن تفصل ما هو شخصي عما هو عام. فقد كنا نعيش هموم الأمة، وآلامها وآمالها، عليها نمسي ونصبح، وننام ونستيقظ، ونسكن ونتحرك".

 

بداية التنظيم العالمي للإخوان
وفي بداية المجلد الرابع  للذكريات تحدث القرضاوي عن بداية تكوين التنظيم الدولي للإخوان قائلا: "بعد محنة 1965 ، لم تؤثر على إخوان مصر فحسب بل أثرت أيضا على الإخوان الذين يعيشون خارج مصر لأسباب شتى، قد جمعتهم المحنة من تفرُّق، وأحيت فيهم روح الأخوّة بعد همود، وأيقظت فيهم الغيرة على العمل الإسلامي بعد رقود. وقد قال جمال الدين الأفغاني: بالضغط والتضييق تلتحم الأجزاء المبعثرة! كان أول ما جمعهم: التفكير في معونة الأسر المنكوبة من إخوانهم، ثم انتقلوا من هذا الواجب المؤقت، إلى التفكير في إيجاد لون من الترابط الدائم، يجمع بين أبناء الدعوة من المصريين أولا، ثم من إخوانهم في البلاد العربية المختلفة.  

ويضيف: "بدأ التفكير في إحياء المكتب التنفيذي القديم، الذي كان يمثِّل الدول العربية أو عددًا منها، إذ إن حركة الإخوان ليست مجرد جماعة مصرية، بل هي حركة إسلامية عالمية، وإن كانت مصرية النشأة.

وكلفني الإخوة أن أقوم بتقديم تصور عام لهذه الخطة، ومحاورها الأساسية وخطوطها العريضة. وأذكر أني قد عكفت على هذا الأمر، ووضعت تصورا لهذه الخطة، في الداخل والخارج: في المجال العلمي، وفي المجال التربوي، وفي المجال الاجتماعي، وفي المجال الاقتصادي، وفي المجال السياسي ... وقسمتها إلى مراحل كل مرحلة تسلم إلى ما بعدها. ومن خصائص هذه الخطة:

1 - أنها علمية، تعتمد على الإحصاء والأرقام، لا على العاطفية والارتجال.

2 - وأنها واقعية، تتعامل مع الواقع كما هو، بلا تهوين ولا تهويل، ولا جريان مع الأحلام.

3 - وأنها مرنة، تستطيع أن تستبدل شيئًا بشيء، ولا تقف جامدة عند تغير المواقف.

4 - وأنها متوازنة، تتبنّى خط الوسطية والاعتدال في كل الأمور.

5 - وأنها استشرافية، تنظر إلى المستقبل وتوقعاته، وتعدّ له ما يناسبه.

وقد عرضت هذه الخطة على المكتب أو المجلس، وأخذ يناقشها في جلسة من جلساته، أظنها كانت في المدينة المنورة، وأقرها المجتمعون بصفة عامة، بعد إدخال بعض التعديلات عليها، وتتمم استكمال بعض أشياء، رئي أنها تتم البناء ... ثم في الدورات التالية شغل المجتمعون بأمور إدارية أخرى، ونُسِيت الخطة، كما ينسى كثير من الأمور المهمة، التي يشرع فيها ثم لا تستكمل! ولا أدري ماذا حدث فيها بعد، ولم يكن عندي أي أصل غير المسودة التي قدمتها.

ثم بدأ الأمر يأخذ شكلًا تنظيميًّا، كما كان قبل ذلك. يُدعى من كل بلد واحد يمثل الدعوة فيها. وكنت أحضر ممثلًا للإخوان في قطر، وكنا في أول الأمر مشغولين بوضع خطة للعمل المستقبلي، ليناقشها الأعضاء، فإذا أقرّوها، وضعت موضع التنفيذ.

ظل المكتب يعقد جلساته كل سنة مرة، في أي مدينة يتيسر اجتماعه فيها من مدن العالم العربي والإسلامي، لا يلتزم ببلد معين. وهناك بلاد يستحيل أن يجتمع فيها، وهي البلاد التي تحكمها الديكتاتوريات، ويتسلط عليها أمن الدولة تسلطا مباشرًا، فلا يسمح بمثل هذا اللقاء إلا أن يكون وراء أسوار السجن! هذا إذا سمح لهم اصلا بدخول البلد، وهيهات هيات. من هذه البلاد: مصر وسورية والعراق وتونس وغيرها من البلاد المغلقة".

 

استعفائي من العمل التنظيمي للجماعة

وتحدث الدكتور القرضاوي عن ارتباطه بجماعة الإخوان المسلمين على الرغم من استعفائه من العمل التنظيمي للجماعة قائلا: "وبعد ذلك رأيت أن أستعفي من العمل بالتنظيمي في جماعة الإخوان، وأن اتحرر من الالتزام بأي عمل رسمي في تنظيم الإخوان، وأن أتفرغ للعمل الإسلامي العام، فوضعي اليوم يقتضي مني أن أكون للمسلمين جميعا، على اختلاف اتجاهاتهم، واختلاف أقطارهم، واختلاف مذاهبهم. هذا مع أني لا أنكر انتمائي لدعوة الإخوان نشأة وفكرًا وولاء. وسأظل أعمل لترشيد مسيرة الإخوان، ضمن مسيرة الصحوة الإسلامية، العامة، وتسديد خطاها، وتحذيرها من المزالق والمضايق ... وهذا لا ينافي أن أنقدها كما أنقد غيرها من الحركات والجماعات. وقد رضي مني الإخوان هذا الموقف الذي يراه كل الراشدين أنفع للإسلام ولأمته، وإن كان بعض رجال الأمن يعتبرون ذلك من باب «توزيع الأدوار». وهؤلاء لو أقسمت لهم بالأيمان المغلظة، أو أتيتهم بكل آية وبينة، لم يصدقوك.

وأحب أن أعلن هنا بوضوح: أني حين انسحبت من التنظيم الرسمي للإخوان عالميا وإقليميا، لا يعني هذا انسلاخي من الدعوة نفسها، أعني الدعوة إلى الإسلام: عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، ودينا ودنيا، وحقا وقوة، ودعوة ودولة. فهذا ما أحيا له، وأموت عليه، وأنذر عمري له. فأنا ابن الدعوة وأخوها وأبوها، وهي مني وأنا منها.

 

شرح الأصول العشرين

ويضيف: "هذا ما يجعل كثيرًا من الإخوان يعتبرونني واحدًا منهم، وإن أعلنت استقلالي عنهم، بل ربما اعتبرني كثيرون: مفتيهم الأول الذي يأخذون عنه الأحكام، ويفتون بفتواه، وربما اعتبرني آخرون: مُنظِّر الدعوة، الذي يؤصِّل مفاهيمها، ويعمق أفكارها، ويرد فروعها إلى أصولها، ويدلل عليها بالأدلة الشرعية الموثقة، كما يتجلى ذلك واضحا في سلسلة: «نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام» وهي تدور حول «الأصول العشرين» للإمام حسن البنا، وتشرحها شرحًا أصوليًّا فقهيًّا يجمع بين محكمات الشرع ومقتضيات العصر. وقد كنت من قديم شرحت هذه الأصول شرحًا شفهيًّا، مسجّلا على أشرطة «كاسيت» ونشرت ووزعت في أنحاء العالم، ولقيت قبولا عاما".

 

التحرك لمقاومة التيار التنصيري

ويواصل في مذكراته: "في عام 1978، تزامنا مع انعقاد مؤتمر تنصير المسلمين كلورادو بزغ بدأ الدكتور يوسف القرضاوي في التحرك لمقاومة التيار التنصيري وعن دوره قال: "على كل حال لقد أقلقتني أخبار مؤتمر كلورادو كما أقلقت غيري من العلماء والدعاة وأهل الغيرة على الإسلام وأمته، وكل الحراس الأيقاظ الذين عدُّوا أنفسهم مسئولين عن هوية الأمة وعن الحفاظ على عقيدتها ورسالتها مرابطين على ثغورها. وهذا ما حرَّكني لعمل شيء لمقاومة التيار التنصيري، الذي يستغل فقر المسلمين وجهلهم ومرضهم ومشكلاتهم، للتسلل منه إلى فتنتهم عن دينهم، بوسائل غير أخلاقية، وأساليب لا يرضاها الله ولا رسله، ومنهم المسيح عليه السلام. وهو ما انتهى إلى تأسيس «الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية» بالكويت ... وسأكمل بقية الحديث عن هذا الأمر الخطير عندما أتحدث عن إنشاء الهيئة الخيرية، في حينه من هذا الجزء من المذكرات إن شاء الله".

 

وفاة الأستاذ المودودي والسفر إلى لاهور للصلاة

وتناولت مذكراته القرضاوي وفاة الداعية الإسلامي المجدد الشيخ الإمام أبي الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية في الهند الكبرى، ثم في باكستان الغربية والشرقية والسفر إلى لاهور للصلاة في 22/9/1979م، فلا عجب أن تلقَّى العلماء والدعاة والمفكرون، وأبناء الحركة الإسلامية في العالم الإسلامي وخارجه: نبأ وفاته بالحزن والألم والاسترجاع، لفقد هذا العالم الفذ، الذي انتفع بعلمه المسلمون عربهم وعجمهم، فقد ترجمت مؤلفاته إلى لغات شتى إسلامية، وعالمية، وفي مقدمتها: اللغة العربية.

ولا ريب في أنّ فقد العلماء الأعلام، يعدُّ من المصائب التي تنزل بالأمة، ولا سيما أولئك الأفذاذ الذين يجود بهم القدر بين الحين والآخر، ويتركون آثارهم في الحياة والأحياء، وقلما يعوضون.

وقد جاء في الحديث المتفق عليه: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا: اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»

ومن هنا كان وقع وفاة المودودي على كل من يعرفه من أبناء الأمة شديدًا، وقد تنادى كثير من الإخوة من العلماء والدعاة، من مصر وبلاد الشام، وبلاد الخليج وغيرها للسفر إلى مدينة لاهور - محل إقامة المودودي - للمشاركة في صلاة الجنازة عليه. لم يبق في ذاكرتي منهم إلا الدكتور أحمد الملط من مصر، والشيخ سعيد حوى من سورية، والأستاذ عبد الله العقيل من السعودية.

وكان المودودي قد وافاه أجله في أمريكا، حيث كان يعالج هناك من مدة، وقد قدر لي أن أزوره هناك في مدينة «بفلو» حيث يقيم ابنه هناك، وذلك قبل وفاته بزمن غير بعيد.

وقد صُلي على جثمان المودودي في أكثر من بلد: صُلي عليه حيث تُوفي في «بفلو»، وصلي عليه في مطار نيويورك، وفي مطار لندن، وفي مطار كراتشي، وهي المحطات التي مرّ عليها جثمان الأستاذ.

وكانت الصلاة الأخيرة والأساسية عليه في مدينة لاهور، التي سافرت إليها مع من سافر من بلاد العرب، وقد تجمَّع جمّ غفير، قُدّروا بأكثر من مليون في أكبر نادٍ رياضي «إستاد» في لاهور.

احتلال المسجد الحرام غرة محرم 1400هـ - 20 نوفمبر 1979م

من أعظم الأحداث خطرًا، وأبعدها أثرًا، التي وقعت في تلك الفترة وكان لها أثرها علينا وعلى المسلمين عامة: احتلال المسجد الحرام، أول مسجد وضع لعبادة الله في الأرض، وفيه الكعبة البيت الحرام، قبلة المسلمين في أنحاء الأرض، إليه يتجهون في صلواتهم كل يوم خمس مرات {وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُ} [البقرة: 144].

وإليه يحج المسلمون في العمر مرة فريضة عليهم، ويحجون متطوعين ويعتمرون ما يسّر الله لهم. والصلاة في هذا المسجد بمائة ألف صلاة فيما عداه من المساجد، غير المسجد النبوي والأقصى.

 

تشييع الأستاذ التلمساني
في 13 من شهر رمضان 1406هـ الموافق 22 مايو 1986م، وفي يوم الأربعاء، انتقل إلى جوار ربّه الأستاذ عمر التلمساني، المرشد الثالث للإخوان المسلمين، وقد صُلي عليه في مسجد عمر مكرم، ودُفن في مقابر مدينة نصر، وشيّعته جماهير غفيرة تقدر بالألوف، من إخوان مصر وأحبائهم، على رغم حرارة جو القاهرة، ومع صيام شهر رمضان. ولم يقدِّر لي أن أشهد جنازته، فقد كنت في قطر، وإن شاركت بالدعاء له والترحُّم عليه، والحديث عنه بما يستحق.
وقد ودعته الجموع بأعين باكية، وقلوب آسية، وألسن داعية ... كلها تبتهل إلى الله عز وجل أن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يجزيه عن الإسلام ودعوته وأمته خير ما يجزي الدعاة الصادقين، والعلماء العاملين.

محاولات استمالة القرضاوي من جانب نظام مبارك

وذكرت مذكرات القرضاوي محاولات نظام مبارك تقريبه من النظام الحاكم، وحول هذه الجزئية، قال:"أثناء حضوري «مؤتمر ديوبند» بالهند، استمع وزير الأوقاف المصري د. محمد المحجوب عضوًا بالحزب الوطني الحاكم، إلى كلمتي، ولاحظ أثرها في الناس، وذلك قبل أن يصبح وزيرًا، بل كان الوزير في ذلك الوقت أخانا العالم الباحث المتخصِّص في الحديث وعلومه الدكتور الأحمدي أبو النور، وكان أبو النور رجل علم أكثر منه رجل سياسة".
فلما جاء المحجوب أراد أن يثبت لمبارك أنه يستطيع أن يجنِّد له العلماء، ليكونوا سندًا لسياسته، يوجَّهون الشعب لنصرته، ويحاربون كل من يقول له: لا، بل من يقول له: لم؟ أو كيف؟.
قابلني مرة بالقاهرة، فقال: أنا أريد أن يتعرف الرئيس عليك، ويستفيد البلد منك، لذا أرجو أن تهدي إلى الرئيس مجموعة من كتبك، يتعرف من خلالها عليك.
قلت: ولكن معلوماتي أن الرئيس لا يقرأ، ولا يحب القراءة.
قال: إنَّ كتبك تمتاز بسلاستها وعذوبتها ووضوح فكرها، وجمال أسلوبها، فلعلها تجذبه يومًا إلى القراءة.
وحتى لو لم يقرأ هو، فقد يوجد في بيته من يقرؤها وينتفع بها. وعلى كل حال نعمل ما علينا، والباقي على الله.
وفعلًا، أهديت له عددًا من الكتب، وقلت في نفسي: علينا البلاغ، وعلى الله الحساب.
بعدها بأشهر، جمعنا المحجوب، أنا ومجموعة من العلماء بالرئيس مبارك في قصره بمصر الجديدة وكان معي من العلماء، إلا الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي رئيس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وهي أول مرة ألتقي فيها الرئيس وجهًا لوجه.
وقد أجلسني قريبًا منه ولم يكن بيني وبينه غير الوزير. وأذكر أن الرئيس سلَّم عليَّ بحرارة غير معتادة، ورَبَت على كتفي. وكان المحجوب حاضرًا، فقال لي: أرأيت كف عاملك الرئيس معاملة خاصّة؟ أريد أن تكون الصلة بينك وبينه حسنة!
قلت له: أنا أود أن تكون الصلة بيني وبين جميع الناس حسنة، ولكني يا دكتور لا أحب زيادة الاقتراب من الحكام! فلست راغبًا فيما عندهم ولا طامعًا في دنياهم. وقد أخشى أن يتَّخذ ذلك ذريعة لتشويه سمعتي.
وبعد برهة من الزمن، دعاني وزير الأوقاف لحضور اجتماع مع عدد من العلماء، وقالوا لي أن المرشد العام سيحضر هذا الاجتماع، الشيخ الشعراوي: الشيخ الغزالي، والشيخ عبد الله المشد رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، والشيخ محمد الطيب النجار رئيس جامعة الأزهر، والشيخ محمد سيد طنطاوي مفتي مصر في ذلك الوقت، والدكتور أحمد كمال أبو المجد، والفقير إليه تعالى. ولم يحضر المرشد العام للإخوان كما قيل. وكان هو الأستاذ محمد حامد أبو النصر.
وكان هدف الاجتماع الخفي هو الرد على ما جاء في شهادة العالم الداعية الشهير، والبرلماني المصري المعروف: الشيخ صلاح أبو إسماعيل رحمه الله، أعني: شهادته في المحكمة التي زلزلت الحكومة زلزالًا، والتي اتَّهمها فيها بالكفر والفسق والظلم، وفقًا لما جاء به القرآن في سورة المائدة: {لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} [المائدة: 47].
ثم أصدر البيان أجزاء وصيغ متَّفق عليها، ولا مانع من تمريرها، وأجزاء أخرى تقف في الحلق، وفيها وقع الخلاف، وطلبوا مني أن أوقِّع، فلم أفعل، واعتذرت عن ذلك. وعجلت بسفري، قافلًا إلى الدوحة.
ولكنهم حين أصدروا البيان ذكروا اسمي مع الموقعين، وأنا كنت مع الحاضرين والمناقشين، ولكن لم أكن من الموقعين. وهذا ما اضطرني إلى أن أحرِّر بيانًا نشرته صحيفة «الشعب» لسان حزب العمل، أبيِّن فيه حقيقة موقفي، كما وقع.

 

اختيار الشيخ عضوا في مجلس أمناء منظمة الدعوة

في عام 1980 تلقَّيت رسالة من الأمانة العامة لمنظمة الدعوة الإسلامية بالخرطوم: أن المجلس قد اختارني عضوًا بمجلس أمناء المنظمة، وأنهم يهنئونني - أو كما قالوا - يهنئون أنفسهم بانضمامي إلى المجلس، راجين أن ينتفعوا بتجربتي الدعوية، وتجربتي العلمية والعملية، في المضيَّ بمسيرة المنظمة إلى الأمام.
ورددت عليهم شاكرًا، راجيًا أن أكون عند حُسن ظنهم، سائلًا الله تعالى أن يبارك في وقتي، ويمدني بتوفيقه وتأييده، مؤكدًا لهم أني مؤمن بمهمة المنظمة الجليلة في العمل الخيري والعمل الدعوي.

 

بنك التقوى

ويستطرد: "هاتفني المهندس يوسف ندا قائلا: لقد اتصلت بك لتضع يدك في أيدينا، لنقيم هذا البنك على أسس إسلامية واقتصادية سليمة، وأن ترأس هيئة الرقابة الشرعية في البنك، حين ننتهي من تأسيسه، وتختار لها من تحب من إخوانك العلماء الذين تثق بقوتهم وأمانتهم، ومع ضيق وقتي إلا أنني وافقت في النهاية".

 

معركة فوائد البنوك والرد على الشيخ طنطاوي مفتي مصر

ويقول الشيخ في مذكراته: "ليس بيني وبين الشيخ طنطاوي من الناحية الشخصية إلا كل مودة وثقة، ولكن هذا شيء والخلاف العلمي شيء آخر، وليس في العلم -وخصوصًا العلم الديني الشرعي- مجاملة، فالحق أحق أن يتبع... وليس في العلم كبير، وكل أحد يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
عين صديقنا الشيخ: محمد سيد طنطاوي مفتيًا لمصر، وكان المفتون قبل ذلك من خريجي كلية الشريعة، ومن المشتغلين بالقضاء الشرعي، والشيخ خريج أصول الدين، ولم يشتغل بالقضاء، ولا بالفقه وأحكامه قبل ذلك، بل كان انشغاله بالتدريس، وخصوصًا في علم التفسير، الذي صنِّف فيه تفسيرًا كاملًا سماه: «التفسير الوسيط للقرآن»، وكان الشيخ في السنة الأولى من تعيينه مفتيًا، يعتمد في فتواه على العلماء الموجودين في الأمانة العامة لدار الإفتاء، ويكتفي بالتوقيع عليها.
ثم بدا له أن يكون له شخصيته المستقلة في الفتيا، وخصوصًا في بعض القضايا الشائكة، مثل: قضايا الفوائد وشهادات الاستثمار وما إليها.
تم تحديد اجتماع بيني وبين صديقي طنطاوي وحضر كلا من الشيخ لغزالي والسالوس
قد بقينا في نقاش طويل مع الشيخ، وظللنا ثلاثتنا نحاول أن نزحزحه عن مكانه، أو عن رأيه الذي التزمه، فلم نفلح، برغم ما قدمنا له من أدلة واعتبارات فقهية واقتصادية، وما نقلناه له عن الفقهاء، كأنما هو «مبرمج» بلغة الكمبيوتر.
وبعد ثلاث ساعات من الجدال والأخذ والرد، افترقنا دون أن نحصل على نتيجة إذ كان الشيخ مُصمِّمًا على موقفه.
ومن هنا ألفت كتابي «فوائد البنوك هي الربا الحرام» لأضع النقاط على الحروف، كما يقولون، ولأبين أن الأمر قد حسم من قديم. وأن هذا الحسم، قد وثق بما قررته المجامع الفقهية العلمية الإسلامية، ابتداء من مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الذي أعلن في مؤتمره سنة 1965م، بالإجماع - وقد حضره مندوبون من 35 دولة: أن فوائد البنوك ربا محرم لا شك فيه.
وأكد ذلك مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، وكذلك المجمع الفقهي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي. كما أكدته كل المؤتمرات الاقتصادية الإسلامية، ومؤتمرات المصارف الإسلامية في العالم الإسلامي.

 

غزو صدام للكويت 

فوجئنا وفوجئ العالم كله، بنبأ يذيع التلفزيون البريطاني، لم يكن يخطر بالبال. نبأ زلزل الدنيا وشغل الخلق، وتحرك له الناس في المشارق والمغارب، لا يكادون يصدقونه، ذلك النبأ هو: غزو صدام حسين لدولة الكويت، وذلك في أغسطس سنة 1990.

وجمع صدام حسين حوله العلماء، وأحمد الله أني لم أشارك في شيء من هذا، وقد دُعيت أكثر من مرة لمؤتمرات صدام، وألحَّ عليَّ في الدعوة: السفير العراقي في قطر، ولكني اعتذرت، وأصررت على الاعتذار. وكانوا يقولون في العراق: هناك عالمان فقط لم يستجيبا لدعوة العراق أو دعوة صدام: أبو الحسن الندوي في الهند، ويوسف القرضاوي في قطر. وذلك من فضل الله علينا وعلى الناس.
وفي هذه الأثناء، خطبت خطبة تاريخية في مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة، حول العدوان على الكويت. دنت فيها هذا الغزو الآثم، الذي يتَّسم بالحماقة وعدم التدبر في العواقب، كما يتَّسم بالغدر بشقيق وقف معه في وقت الشدة، فهو يجزي الإحسان بالإساءة، وهو يقسم العرب في وقت يحتاجون فيه إلى التوحد والتلاحم، وهو يعيدنا إلى عهد الجاهلية حيث يغير الأخ على أخيه بأدنى سبب.

 

العمل في الجزائر " 1990 - 1991م"

كان لا بدّ لي من أن أسافر إلى الجزائر، بعد موافقة أمير قطر على إعارتي لها، لأبدأ مباشرة عملي هناك. وكان عملي يُمَثِّل في أمرين:
الأول: رئاسة المجلس العلمي بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في قسنطينة. وهذا لا يتطلَّب مني دوامًا كاملًا هناك.
والثاني: أن أعمل مستشارًا لوزارة الشؤون الدينية في العاصمة، ووزيرها صديقنا الفاضل الدكتور سعيد شيبان، الذي طالما التقيناه في ملتقيات الفكر الإسلامي، وعرفناه طبيبًا مثقفًا، وداعية للإسلام، متعاونًا مع الدعاة والعاملين لنصرة الإسلام. وهو شقيق صديقنا الشيخ عبد الرحمن شيبان، وزير الشؤون الدينية الأسبق.

 

تفسير الأصول العشرين للإمام الشهيد حسن البنا

ويروي الشيخ قصة شرحه للأصول العشرين للإمام الشهيد حسن البنا قائلا: "طلب مني عددٌ من الإخوة في قطر أن ألتقيهم، لأشرح هذه الأصول شرحًا شفهيًّا يسجّل على الأشرطة، ويعمَّم بعد ذلك على الإخوة في أقطارهم. وقد فعلت ذلك، وسجّلت في نحو عشرة أشرطة كاسيت، وُزِّعت بعد ذلك على نطاق واسع، واستقبلها الإخوة بحفاوة واهتمام. وطلب مني بعضهم أن أفرغها مكتوبة فرفضت؛ لأنّ للكتابة لغة لا تتوافر في الشرح الشفهي المرتجل، وأني أنوي كتابة شرح خاص لها أفيض فيه وأؤصل وأفصّل إذا يسر الله".

 

اختيار القرضاوي عضوًا بالمجمع الفقهي

ويقول: "بعد ذلك، اختاروني عضوًا بالمجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي، الذي يرأسه العلَّامة الشيخ عبد العزيز بن باز، ومعه الشيخ الندوي، والزرقا، وأبو سنة، والصواف، وابن جبرين، والفوزان، والبسام، وغيرهم. وقد حرصت على حضور جلساته، وتقديم الأبحاث إليه ما استطعت، ولا أتخلف إلا لعذر.
خسارتي في جُلِّ المساهمات المالية
ولكن - للأسف - جُلّ المشروعات التي ساهمت فيها خسرت، وبعضها حصلنا فيها على قليل من رأس المال، وبعضها لم نحصل فيها على نقير ولا قطمير، بل ذهبت كلها هباء.
حدث هذا معي في البنك الإسلامي الأوروبي.
وفي المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية في مصر.
وفي الشركة الإسلامية للصوتيات والمرئيات المتفرِّعة منه.
وفي الشركة الإسلامية للتنمية في الخرطوم.
وفي شركات توظيف الأموال التي اشتهرت في مصر، مثل: شركة الريان، وشركة الشريف ومصانعه، وشركة الحجاز، التي لم نحصل من رصيدنا فيها على دينار ولا درهم ولا فلس. لا أنا ولا أولادي ولا أصهاري".

 

خطب  ودروس القرضاوي في ثلاثة مساجد بقطر
أصبح جامع عمر بن الخطاب هو مسجدي لخطبة الجمعة، والجامع الكبير هو مسجدي لصلاة التراويح ودروس التفسير بينها، ومسجد الشيخ خليفة بن حمد أمير البلاد يومئذ هو مسجدي لدروس العصر في رمضان، الذي كان يحضره باستمرار، وقد ظللت أؤديه، وظل يداوم عليه ستة وثلاثين عامًا.
كتب القرضاوي المهمة في الاقتصاد الإسلامي
من الكتب المهمة التي صدرت لي في تلك المرحلة (1994م)، وأعتزّ بها: كتاب: «دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي»، وهو كتاب كبير في (440) أربعمائة وأربعين صفحة، وهو أحد كتبي المهمة في الاقتصاد الإسلامي، وهي:
1-  «فقه الزكاة».
2 - «مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام؟».
3 - «بيع المرابحة للآمر بالشراء».
4 - «فوائد البنوك هي الربا الحرام».
5 - «الزكاة وأثرها في حل المشكلات الاقتصادية وشروط نجاحها».