تعد كتب مذكرات العلامة الشيخ يوسف القرضاوي التي وثقت نحو قرنا من الزمان عاشها العامل المجتهد المجدد،  بداية من نشأته في القرية المتواضعة التي تبعد عن المدنية وفي أسرة متوسطة الحال، حتى وصل إلى العالمية، من المراجع الهامة والقيمة لدى المهتمين بدراسة الشخصيات والعلماء الكبار؛ حيث نندرج مذكرات يوسف القرضاوي  التي كتبها في 4 مجلدات ضمن نطاق كتب الشخصيات والأعلام والعلماء والفروع وثيقة الصلة ولاسيما التراجم وعلوم التاريخ والفكر الاجتماعي.

 

ولد الدكتور يوسف القرضاوي في عام 1926 وتوفي في عام 2022 خلال تلك المدة عايش الكثير من الأحداث والتقي بكثير من الشخصيات فلاشك أن لديه الكثير مما يقول في مذكراته، التي حملت عنوان "بابن القرية والكتاب .. ملامح سيرة ومسيرة" التي أصدرها الشيخ على أربعة أجزاء، كما أصدر كتاب في "وداع الأعلام" هذا الكتاب ترجم فيه للشخصيات التي توفيت، فحينما يتوفي أحد أصحابه أو شيخه يقدم في ترجمته ويذكر مواقفه معه، وبحسب مؤخرين فإن الشيخ القرضاوي رحمه الله كان له علاقات اجتماعية واسعة جعلت مذكراته ثرية في غاية الثراء.

 

مذكرات القرضاوي

 

ذكر الدكتور يوسف القرضاوي في مقدمة الجزء الأول لكتاب المذكراته بأنه كان لا يرغب في كتابة مذكراته لعدة أسباب، والتي قال عنها أولًا: أن كتابة السيرة والمسيرة إنما هي من الحديث عن النفس، والحديث عن النفس لا بد أن يتضمن لونًا ما من تزكية النفس، وتمجيد الذات، وتزيينها في أعين القراء، وهو أمر مذموم شرعًا وخُلُقًا، والسيرة الذاتية تضطر الإنسان إلى أن يقول: أنا فعلت، وأنا قلت، وأنا سوَّيت.

 

ثانيًا: أني لست من زعماء السياسة، الذين يجد الناس في حياتهم «مطبات» خطيرة، أو أسرارًا رهيبة، أو مفاجآت تروعهم، وأحداثًا غريبة تذهلهم.

 

ثالثًا: أن لم أكتب شيئًا مما مرَّ بي من أحداث في حينه، ولم أسطر أي ذكريات. وكثيرًا ما طلب مني بعض الإخوة القريبين مني أن أسجل مذكرات عن رحلاتي المختلفة في أنحاء العالم، فلم ينشرح صدري لذلك،.. ولكن إخوة أحبة ممن أعتز بهم وأقدرهم، وأشعر بخالص مودتهم طلبوا مني، وألحوا عليَّ في الطلب أن أكتب هذه المسيرة بقلمي، وزعموا أن فيها خيرًا كثيرًا للقراء، وخصوصًا للأجيال الواعدة الصاعدة من أبناء الأمة، وأنهم - على رغم فكرتي عن نفسي - يجدون في سيرتي ومسيرتي ما يستحق التسجيل والرصد والنشر، ليتخذ منه الناس عبرة، ويتخذ منه الشباب حافزًا للعمل، وباعثًا للأمل. وقالوا: إنك إذا لم تكتبها بقلمك سيحاول الآخرون أن يكتبوها، ولن تكون مثل كتابتك أنت. وعلى هذا الأساس سأعتمد فيما أكتب على ذاكرتي لا على مذكراتي.

 

ولادته  ونشأته

 

سجلت مذكرات الدكتور القرضاوي ولادته ونشأته في قرية صغيرة وغمورة، وفي هذه القرية البسيطة، ظهر شعاع العلامة، وخطى في ربوعها ومرابعها خطواته الأولى، متأثرا بجوانبها الدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بجانب أسرته التي تربى فيها يتيم الأب، لكن المولى عز وجل عوضه بعم رحيم.

 

وذكر القرضاوي  في مذكراته أن عائلته من العائلات الكبيرة، وكان أبوه نصف فلاح ونصف تاجر، والذي توفي وتركه وعمره سنتين، ليربيه عمه أحمد الذي يعتبر العم الوحيد الذي بقي بعد وفاة أبيه، عبد الله الذي لم ينجب غيره، وكانت أسرته ـ رغم محدودية دخلها ـ مستورة الحال، مكتفية بما يرزقها الله من الأرض التي تزرعها، ما لم تنزل بها نازلة من نوازل الدهر، والتي قلما يسلم منها أحد، وكانوا يعيشون على لبن الجاموسة في البيت بديلا عن اللحم الذي لا يملكون ثمنه باستمرار، إلا في كل يوم أربعاء، يوم السوق.، فكان اللبن الرايب والقشدة والجبن، والجبنة القديمة والمش، والزبدة والسمن، كل هذه مصادر خير ورزق للأسرة.

 

وقال القرضاوي في مذكراته عن هذه الفترة: " كان مما أكرمني الله به: أن لي بيتين، أولهما: بيت العائلة عندنا، وهو البيت الذي أقيم فيه مع عمي وأولاد عمي، ومعي والدتي. والآخر: هو بيت جدي الذي كنت أذهب إليه كثيرا، وأقيم فيه طويلا، وكان بيت جدي أيسر حالا من بيت عمي؛ إذ كان جدي تاجرا، وعمي فلاحا، والتجار كانوا أكثر يسرا من الفلاحين الذين يعانون في معيشتهم، ولذا كان بيت جدي أقرب إلى المدنية من بيتنا".

 

طفولة سليمة ونشئة صالحة

 

نشأ العلامة سليما من الناحية الصحية، فقد نجاه المولى عز وجل من العديد من الأمراض التي كانت تصيب عامة المصريين من الأمراض المتوطنة (البلهارسيا والإنكلستوما والإسكارس ـ ثعابين البطن)، وذكر أن عائلته كان تخشي عليه الحسدلعد تعرضه للأمراض وأيضا لتفوقه في الكتاب، وكان الاعتماد  في ذلك الوقت في علاج الأمراض بالأدوية المادية، مع الاستعانة بالأدوية الروحية مثل الرقى والأدعية والأذكار، التي لا يجحد أحد أثرها في نفس المريض.

 

وعلى الرغم من كون عمه مزارعا وخاله تاجرًا لم يستطع العلامة أن يسلك أي من طرق عائلته في التجارة أو الزراعة، كما أنه لم يتعلم أية مهنة أخرى، وعندما كان غلاما ورغب في العمل في أحد مصانع النسيج لم يوفق حينها، وكأن الله يعده إلى أن يكون نبراسا للأمة وحاملا هم قضاياها، وأداة لرفعة شأنها ويترك ورائة إرثا كبيرًا للعالم الإسلامي لينهل من معرفته معلمه حتى بعد وفاته.

 

الكتاب المحطة الأولى في رحلة العلامة

 

وبحسب مذكرات الشيخ يوسف القرضاوي في قرية كبيرة نسبيا، فقد كان سكانها –وهو صبي- أكثر من عشرين ألفا، وكان فيها أربعة كتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم؛ اثنان في وسط البلد، حيث يقع منزله، وواحد في الشرق، وآخر في الغرب. كانت الكتاتيب تنسب إلى معلميها، وهم في الواقع أصحابها ومُلاكها. وهي في العادة ملاصقة لبيوتهم أو هي جزء منها.

 

ترك الكتاب بسب الظلم

 

والتحق شيخنا في بادئ الأمر بكتاب الشيخ "يماني مراد"، بإغراء من أحد أقاربه الذي كان من تلاميذ هذا الكتاب. ولكنه لبس فيه يوما واحدا فقط، ولم يعد إليه بعد ذلك؛ وذلك لأن الشيخ يماني ضرب التلاميذ جميعا "لتنشيطهم" وكان الشيخ من المضروبين. فعز على نفسه أن يضرب ظلما وبلا سبب.

 

فقد نشأ الشيخ على فطرة فطره الله عليها، فلم يحب أن يظْلِم أو يظْلَم، وقد تعلم هذا من النبي -صلى الله عليه وسلم-  الذي كان يستعيذ بالله أن يَظْلِم أو يُظْلَم، أو يَجهل أو يُجهل عليه.

 

الانتقال لكتاب جديد

 

أنقطع العلامة بعد الظلم الذي تعرض له عن الذهاب إلى أي كتاب مدة من الزمن، حتى دعته والدته -رحمها الله- على الذهاب إلى كتاب الشيخ حامد، وهو جار لبيت جدي (والد أمي) مؤكدة له أنها ستوصيه به خيرا، حيث كانت والدته حريصة كل الحرص على أن يتعلم القرآن.

 

وبعد هذه التوصيه استقبله الشيخ حامد -رحمه الله- استقبالا حسنا، وكان محظيا عنده، وقد لاحظ الشيخ حامد أنه تلميذ مجتهد؛ فقد لاحظ سرعة حفظه، وسلامة نطقه، كما لاحظ أنه أول صبي يحضر إلى الكتاب.

 

كان الكتاب بمثابة مدرسة خاصة، ولكن رسومه وأجوره كانت زهيدة بسيطة؛ فهو يأخذ نصف قرش في يوم الأربعاء من كل أسبوع؛ وذلك لأن الأربعاء يوم سوق القرية، ومع هذا كان نصف القرش هذا ثقيلا على بعض الناس، ومنهم شيخنا ولكن الشيخ حامد كان يتسامح معه إذا لم يجد نصف القرش، حت أصبح يأخذ منه نصف القرش كل أسبوعين.

 

تأثير الكتاب في حياة العلامة

 

تعلم شيخنا في الكتاب حفظ فقرة مناسبة من القرآن الكريم. هذه الفقرة يكتبوها بأيديهم في لوح مدهون بالزيت، بحيث يصلح للكتابة بالحبر، ويكتبوا كل يوم القدر المطلوب حفظه، ويصححوه على الشيخ قبل أن يحفظوه، ثم يحفظوه في المنزل بعد عودتهم من الكتاب، وفي اليوم الثاني "يسمعونه" على العريف. فمن لم يكن يحفظه جيدًّا، رُدَّ ليجود حفظه.

 

 ثم كانوا يتعلمون القراءة والكتابة بالمحاكاة؛ يتعلم بعضهم من بعض، ولم تكن في الكتاب طريقة منهجية للتعليم، وإن كان الشيخ حامد يستعمل السبورة أحيانا أو يكتب بعض الكلمات، ويطلب من التلاميذ أن يحاكوها، ويكتبوها في اللوح عدة مرات، حتى يتعلموا الكتابة.

 

وكانوا يرددون كل يوم كلمات كالببغاوات،يلقونها بطريقة ملحنة بطريقة الأناشيد ولا يفهمون لها معنى. حيث يقولون بصوت جماعي: با: با ألف، بي: با يي، بو: با واو. تا: تا ألف، تي: تا يي، تو: تا واو.

 

وكانوا يلقنون الطلاب كلمات يحفظونها في العقيدة، مثل: صفات الله تعالى عشرون: الوجود والقدم والبقاء ومخالفته تعالى للحوادث، وقيامه بنفسه، والوحدانية، والعلم والإرادة والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام، وكونه تعالى عالمًا ومريدًا وقادرًا وحيًا وسميعًا وبصيرًا ومتكلمًا.

 

كما كانوا يحفظونهم من السيرة النبوية أولاد النبي سبعة: عبد الله والقاسم وإبراهيم، وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم، وكلهم من السيدة خديجة، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية.

 

الشيخ وحفظ القرآن

 

بدأ الشيخ حامد -رحمه الله- تعليم شيخنا حفظ القرآن من جزء "عم"، بحفظه منكوسا أي سورة الناس، فسورة الفلق، فالإخلاص فالمسد، فالنصر، فالكافرون، إلى أن فرغت من حفظ جزء عم، ثم جزء تبارك، ثم "قد سمع"، بهذه الطريقة، ثم جزء الذاريات، إلى سورة النجم.

 

ثم قفز به الشيخ حامد إلى سورة الأنعام، فحفظ سورة الأنعام، ثم المائدة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم البقرة، وعندما ختم البقرة أقام الكتاب حفلا صغيرا بهذه المناسبة، وكان أصغر من حفظ القرآن بالقرية في سن التاسعة.

 

كان من حق الشيخ حامد أن يحصل على جنيه مكافأة ختم القرآن، يأخذها عادة من كل تلميذ يتم حفظ القرآن، ولكنه -رعاية لحاله- اكتفى بنصف جنيه.

 

إلى هنا انتهى عهد الشيخ العلامة في الكتاب لتبدأ مرحلة جدية في حياته بالإلتحاق بالمدارس الإلزامية وهذا ما سنتحدث عنة في السلسلة القادمة.