"سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي وأموت مبتسماً ليحيا ديني.. هكذا قلت للطغاة ولازلت ثابت على موقفي " كلمات ستظل خالدة سجلها التاريخ  بحروف من ذهب للعلامة الشيخ  يوسف القرضاوي الذي واجه الظالمين كالفارس الشجاع  بالحجة والبرهان قارعا إجرام الطغاة على مدار قرن من الزمان مجهاد حتى فارقنا الاثنين غريبا في وطن غير وطنه بأوامر سلطات الانقلاب في مصر، التي وضعته رغم مكانته على قوائم الانتظار لاعتقاله كغيره من العلماء.

 

ولقد عاش العلامة ومجتهد عصرنا رافعا قلمه حارسا للإسلام مجاهدا ثائرا على الطواغيت، رافضا للاستبداد، داعيا لحرية الشعوب وحقها في الحياة الكريمة، حتى صدر بحقه حكمان بالإعدام بعد ثورات الربيع العبي "حكم من القضاء المصري، وحكم من النظام السوري"، وهي منقبة لم تنعقد لعالم من العلماء في عصرنا.

 

وفاة الدكتور يوسف القرضاوي

توفي الاثنين الماضي 26 سبتمبر العلامة صوت الحق ونبراسه، الدكتور يوسف القرضاوي بعيد عن وطنه في دولة قطر الذي سافر إليها قبل سنوات عقود، ، كان قد سافر إلى قطر عام 1961 هرباً من نظام جمال عبدالناصر، الذي سجنه وعذّبه آنذاك.

وعمل “القرضاوي” في قطر مديراً للمعهد الديني الثانوي، وحصل على الجنسية القطرية بعد استقراره في الدوحة.

وأكد القرضاوي أنه وصلها في البداية مندوبا للأزهر بناء على طلب من أحد علمائها، وأنه وجد ترحيبا كبيرا فيها من الأمير والحكومة والشعب والعلماء.

وعن إقامته في قطر  قال “عشت في قطر بحمدالله منتصب القامة.. مـرفـوعَ الهامـة.. محفوظَ الكرامة  “لا يستطيع أحد أن يتهمني بأني نافقت يوما في حياتي”.

واستطرد: “لو كنت أحب أن أنافق أو أحب أن أسير في ركاب السلطان، لبقيت في موطني الأصلي وبقليل من التنازلات كنت وصلت إلى أعلى المناصب التي وصل إليها من هم دوني بكثير”.

وأكمل الشيخ القرضاوي: “ولكني آثرت أن أحتفظ  بديني وأحتفظ  بمبدأي وأثبت على موقفي وأقول للطغاة ولكل ظالم  جبار متحديا: ضع في يدي  القيد ألهب أضلعي بالسوط .. ضع عنقي على السكين لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونور يقيني”.

وفي عام 2014، عندما سحبت الرياض وحلفاؤها السفراء من الدوحة، أوقف القرضاوي خطب الجمعة، قائلا إنه يريد تخفيف بعض الضغط على قطر، التي أصبحت موطنه المختار الذي عاش فيه منذ الستينيات.

 

اعتقاله والتنكيل به

لم تتواني النظم الخائنة لشعوبها وأوطانها من إلصاق الاتهامات إلى العلامة بسبب موقفه الثابت الرافض لحكمهم، وأفكاره ودفاعه عن الإسلام وسفينه، ففي عام 1949 اعتقل في عهد الملكي وهو لا يزال طالبًا في المرحلة الثانوية،  ثم اعتقل ثلاث مرات في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر في يناير سنة 1954، ثم في نوفمبر من السنة نفسها، حيث استمر اعتقاله  نحو عشرين شهرًا.

وبسبب مواقفه المساندة لثورات الربيع العربي صدر في حق الدكتور يوسف القرضاوي حكمين بالإعدام حكما في مصر وآخر في سوريا بجانب أحكام بالسجن ففي عام 2015 أكدت محكمة جنايات القاهرة حكم الإعدام بحق الرئيس الشهيد محمد مرسي، في القضية المعروفة إعلاميا باسم "اقتحام السجون وآخرين، وقضت المحكمة غيابيا بإعدام أكثر من 90 بريئا بينهم القرضاوي.

قال القرضاوي إن الأحكام التي تتعلق باقتحام جماعي للسجون في 2011 محض هراء ومخالفة للشريعة الإسلامية، مشيرا إلى أنه كان في قطر في ذلك الوقت.

وفي عام 2018 أصدرت محكمة عسكرية حكما جائرًا بالسجن المؤبد بزعم "الاشتراك والمساهمة في قتل ضابط مصري"، فضلاً عن أحكام أخرى، كما أمر النائب العام المصري بوضع القرضاوي على قوائم ترقب الوصول.

 

إلصاق اتهامات باطلة

واتُهم القرضاوي بالتطرف والإرهاب والتحريض على القتل والعنف من قبل بعض الدول العربية والغربية، لكنه كان دائماً ينفي هذه التهم ويؤكد وقوفه خلال مسيرته في وجه التطرف والمتطرفين ويدعو إلى الوسطية والاعتدال.

ومنع القرضاوي من دخول الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، بسبب تأييده للعمليات التي تنفذها المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، واصفًا إياها بـ"العمليات الاستشهادية".

 

قوائم الإرهاب

وفي نوفمبر 2017، أدرجت السعودية والإمارات والبحرين ومصر، "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، الذي يترأسه القرضاوي، و"المجلس الإسلامي العالمي"، إلى جانب 11 فرداً في "قوائم الإرهاب"، وذلك ضمن ما وصفته بـ"الالتزام بمحاربة الإرهاب، وتجفيف مصادر تمويله، ومكافحة الفكر المتطرف، وأدوات نشره وترويجه".

 

اعتقال علا القرضاوي

ولم يكتفي نظام العسكر بإيذائه وإلصاق الباطل به، ففي 30 يونيو 2017، اعتقلت السلطات المصرية علا القرضاوي، وزوجها حسام خلف، بتهمة "الانتماء لجماعة أُسست مخالفة للقانون، والتخطيط لتنفيذ عمليات إرهابية تستهدف الأمن ومؤسسات الدولة وتمويل تلك الجماعة".

وفي يوليو 2019،  قررت محكمة جنايات القاهرة إخلاء سبيل علا القرضاوي بتدابير احترازية، وبعدها بساعات قررت النيابة حبسها في قضية جديدة.

وبعد أربع سنوات ونصف السنة في الحبس الاحتياطي، قررت النيابة العامة المصرية نهاية ديسمبر من العام الماضي، الإفراج عن علا القرضاوي، ولكن زوجها حسام خلف لا يزال يقبع في السجن.

 

محافظا على دأبه

من جهته، وصف الشيخ العلّامة محمد الحسن ولد الددو عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الشيخ القرضاوي بأنه “المربي الكبير وأحد ورثة رسول الله في هذا الزمان”.

وقال إن القرضاوي جمع بين قوة الذاكرة في استيعاب العلوم الدينية واستيعاب القضايا الاجتماعية والسياسية للمواطن المسلم.

وأضاف أنه يحسب للدكتور القرضاوي كونه “صاحب فكرة وتأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”، وأنه نجح في جعلها “مؤسسة جامعة للوقوف مع الحق في جميع القضايا التي تهم المسلمين في العالم من خلال البحث في المشتركات ومناقشة المختلفات”.

وأوضح ولد الددو أن الشيخ القرضاوي تعرض في حياته للكثير من الانتقادات من طرف جهات سياسية معروفة، إلا أنه لم  يحفل بهذه الانتقادات قط، بل ظل محافظا على دأبه في البحث والتحصيل مما جعل منه “عالما مجتهدا نجح في توضيح البيان الشرعي للعديد من القضايا السياسية الشائكة”.

 

مجدد القرن

قال الكاتب والمفكر المصري فهمي هويدي إن العلّامة يوسف القرضاوي أحد المجددين الكبار الذين برزوا في هذا القرن، وإنه كان حاضرًا بفكر ثاقب واجتهاد عميق وصدر واسع وشجاعة في إعلاء كلمة الحق.

وأضاف لبرنامج "المسائية" على الجزيرة مباشر تعقيبًا على وفاة العالم الأزهري الجليل “الكلمات تعجز عن أن توفيه حقه، وأظن أننا سندرك قيمته بعد وقت طويل عقب الفراغ الكبير الذي تركه، وهو الذي كان مناضلًا على كل الجبهات في الفقه والأدب والسياسة والشعر وفي مجالات كثيرة”.

واستطرد “لا أنسى له مواقف كثيرة في القاهرة أو في الرحلة التي قمنا بها لمراجعة إخواننا في أفغانستان في موضوع هدم التماثيل، لم يتردد في أن يخوض معارك لا حدود لها ولا آفاق لها؛ لأنه كان دائمًا حريصًا على إعلاء كلمة الحق بآرائه الشجاعة وفكره الثاقب”.

وأكد هويدي صعوبة سدّ الفراغ الذي تركه العلامة القرضاوي قائلا “لهذا أظن أن الفراغ الذي تركه شيخنا الكبير لن يُملأ لسنوات طويلة قادمة لأنه رحمه الله رغم تجاوزه سن التسعين فإنه ظل حاضرًا على كل جبهة برأي فيه من الشجاعة والعلم والفكر العميق الذي يراعي فيه تطورات كثيرة”.

وأوضح أنه “لا بد أن نلاحظ أنه أحد الفقهاء القليلين الذين عاشوا العالم العربي بأحداثه، والعالم المعاصر بمجتمعاته المختلفة ورأيناه في أوربا وآسيا وأفريقيا وفي كل مكان وفي كل جبهة واقفًا شاهرًا علمه بكل جرأة وشجاعة”.

 

ملأ ثغرات كثيرة

وأضاف “وأظن أنه ملأ ثغرات كثيرة، وسنحتاج إلى وقت طويل حتى نعوضه وندعو الله أن يعوضنا فيه خيرا، وأن يغفر له ولكل من وقف إلى جواره وأيّده في فكره الذي ظُلم فيه كثيرا، ولكنه ظل ثابتًا لم يتراجع خطوة للوراء”.

وعن حرص القرضاوي على التفاعل مع قضايا الأمة، قال هويدي “القرضاوي في حركته لم يكتفِ بعلم غزير، ولكنه كان حاضرًا في الواقع لأن فكرة التماشي مع الواقع شيء مهم كثيرًا، لم يؤلف كتبًا فقط ولكنه عاش الواقع من ميدان التحرير إلى غزة إلى أفغانستان إلى أدنبرة في إنجلترا”.

وأضاف “لكنه دفع ثمنًا باهظًا وظُلم كثيرًا وشوهت صورته وأظن أن بعض الكتابات حتى هذه اللحظة تحاول النيْل منه، ولكنه ظل ثابتًا وكانت عينه على الآخرة ولم يخش إلا ربه سبحانه وتعالى”.