د/ حمدي شعيب
أخي الحبيب الحاج ...
بداية نهنئكم على هذه المنة العظيمة؛ وهي فوزكم برحلة الحج.
وهي منة تستحق سجدة شكر للحق سبحانه، أن هيأ لكم الأسباب والإمكانيات، فكنتم من المستطيعين، على أن تستجيبوا لهذه الدعوة الإبراهيمية، وتؤدون هذا الركن العظيم:
"وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ". [آل عمران 97]
فكنتم ممن شرفهم الحق سبحانه، فلبيتم النداء، وأنجاكم من الكفر والخسران.
وكذلك أن أنجاكم من هذا التهديد الفاروقي فيما رواه سعيد في سننه عن عمر رضي الله عنه قال: "لقد هممتُ أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصارِ فينظروا كل من كان له جِدَةٌ ـ أي سعة من المال ـ، ولم يحج، ليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ماهم بمسلمين".
وشكر النعمة يزيدها ويحفظها ويبارك فيها: "لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ". [إبراهيم 7]
وهي رسالتي الأولى إليكم؛ وهي دعوة للإيجابية، فتستشعروا أن الله جعل للمسلم فاعلية وإيجابية في أن يزيد هذا الخير وسائر نعمه سبحانه، وفي استجلاب الخير؛ وذلك بأن يشكره سبحانه دوماً.
فالحق سبحانه قريب مجيب سميع خاصة للشاكرين الحامدين؛ كما نردد في صلواتنا ليل نهار: "سمِعَ الله لمن حمده".
و"إِنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْحَمَّادُونَ". [أخرجه الطبراني وصححه الألباني]
ولقد راهن إبليس على قلة الحامدين الشاكرين: "ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ". [الأعراف17]
لهذا كان وعده سبحانه: "وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ". [آل عمران144]
فنسأل الله سبحانه أن يجعلنا من الشاكرين الحامدين، ولا يصدق فينا رهان إبليس؟!.
الرسالة الثانية: كن سبَّاقاً للمعالي:
وتذكر يا أخي الكريم هذه الدعوة الكريمة منه صلى الله عليه وسلم إلى المبادرة، والمسارعة بالحج: "تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يَعْرض لهُ". [رواه أحمد]
وهي دعوة طيبة إلى المسارعة في الخيرات، دون تراخ؛ كما جاء في هذه النداءات:
"فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ". [البقرة148]
بل ويجعل هذه الروح السباقة إلى فعل الخيرات، أحد موازين التقييم للعباد، ومن أسباب استجابة الدعاء، فالجزاء من جنس العمل، وتأمل ذلك التقدير القرآني لأسرة زكريا عليهم السلام: "وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ". [الأنبياء89و90]
ونسأل الله سبحانه أن تظل متمتعاً بهذه الروح المبادرة والسباقة للمعالي وأن تمتلك النفس التوَّاقة للتنافس على الخير.
الرسالة الثالثة: اقرأ تاريخك وافتخر:
وأنتم في رحلتكم ـ ونحن معكم ـ نعايش هذه الدعوة إلى قراءة هذه الصفحات من ملف قصة إبراهيم عليه السلام: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ". [إبراهيم37]
فمن خلال هذه اللمحة التاريخية، نتذكر معاً تاريخ تلك العائلة المباركة، ونسمع الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو يتجه إلى ربه معلناً أنه قد أسكن بعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور لبيت الله الحرام، ويذكر الوظيفة التي أسكنهم في هذا الوادي الجدب ليقوموا بها؛ وهي إقامة الصلاة، وهي التي يتحملون هذه المشقة من أجلها، ثم دعا الحق سبحانه، أن يرقق قلوب البشر ويضع فيها حب هذا المكان، فتتشوق وتسرع، وتفد من كل فج، وأن يرزق أهل المكان، الخير مع هؤلاء القادمين، ليتمتعوا، وليكونوا من الشاكرين.
وهنا نستشعر مدى عمق جذور هذه الدعوة، وبعدها التاريخي السحيق، ومعنى أن المسلم يردد في صلواته الخمس، ويؤكد على هذه الصلة القوية: "اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم. وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد". [رواه مسلم وأحمد]
ويفخر بأنه حلقة في سلسلة الخير، وذلك عندما يطلع على ما ورد في معنى "آل محمد"،(قيل: هم من حرمت عليهم الصدقة من بني هاشم وبني عبد المطلب، وقيل: هم ذريته وأزواجه، وقيل: هم أمته وأتباعه إلى يوم القيامة، وقيل: هم المتقون من أمته). [فقه السنة: سيد سابق]
كل هذا يدعونا أن نحافظ معاً على هذا الإرث العظيم، والتواصل الحضاري.
ونفخر بهذا الذكر الجليل، والبركة التي تغمرنا بهذا الدعاء الطيب الذي يتردد على ألسنة أكثر من مليار مسلم كل صلاة.
ولا ننسى عمق المسؤولية والتي تشرفنا بأن توضع على عاتقنا.
فأكرم بالتاريخ من واعظ!.
فالتاريخ ـ كما يسميه د. القرضاوي ـ هو مخزن العبر، ومعلم الأمم، وهو ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، من أهمله أشبه بمن يفقد ذاكرته.