هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري المدني وقد كان يكنى الإمام مالك بأبي عبد الله.

وقد كان الإمام مالك أحد الفقهاء والمحدثين المسلمين؛ والإمام مالك هو ثاني الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وقد كان مالك صاحب المذهب المالكي في الفقه الإسلامي.

اختلف العلماءُ في السنة التي وُلد فيها الإمام مالك، فقيل إنه وُلد سنة 90هـ، وقيل 93هـ، وقيل 94هـ، وقيل 95هـ، وقيل 96هـ، وقيل 98هـ، ولكن الأكثرين على أنه وُلد سنة 93هـ في خلافة الوليد بن عبد الملك، ولقد رُوي أن مالكاً قال: «وُلدت سنة ثلاث وتسعين».

وقد وُلد مالك بالمدينة المنورة، وقيل إنه وُلد بذي المروة، وهي قرية تقع بوادي القرى بين تيماء وخيبر.

نشأ الإمام مالك في بيت اشتغل بعلم الأثر، وفي بيئةٍ كلُّها للأثر والحديث، أما بيته فقد كان مشتغلاً بعلم الحديث واستطلاع الآثار وأخبار الصحابة وفتاويهم، فجده مالك بن أبي عامر كان من كبار التابعين وعلمائهم، وقد روى عن مجموعة من الصحابة، أما أبوه أنس فلم يكن اشتغاله بالحديث كثيراً، إذ لم يُنسب إلى مالك أنه روى عن أبيه إلا خبراً واحداً يُشك في نسبته إليه، فلم يكن أنسٌ إذا من المشتغلين بالعلم والحديث. ومهما كان حالُ أبيه من العلم ففي أعمامه وجَدِّه غناء، ويكفي مقامهم في العلم لتكون الأسرة من الأسر المشهورة بالعلم، كما كان أخو مالك وهو النضر بن أنس ملازماً للعلماء يتلقى عليهم ويأخذ عنهم.

كان الإمام مالك طويلاً جسيماً، شديد البياض إلى الشقرة، عظيم الهامة، حسن الصورة، أصلع، أعين، أشم، أزرق العينين. قال عيسى بن عمر المدني: «ما رأيت بياضاً قط أحسن من وجه مالك، وكان عظيم اللحية عريضها». وكان ربعةً من الرجال، وكان يأخذ أطراف شاربه لا يحلقه ولا يحفيه، ويرى حلق الشارب مُثلة، ويترك له سبلتين طويلتين، ولم يكن يخضب شعره، وقد ذَكر أحمد بن حنبل عن إسحاق بن عيسى الطباع قال: رأيت مالكاً بن أنس لا يخضب فسألته عن ذلك فقال: «بلغني عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخضب»

وكان الإمام مالك يُعنى بلباسه عنايةً تامةً، ويَرى بذلك إعظامَ العلم ورفعةَ العالم، ويقول إن مروءة العالم أن يختار الثوبَ الحسنَ يرتديه ويظهر به، وأنه ينبغي ألا تراه العيون إلا بكامل اللباس حتى العمامة الجيدة، وقد كان يلبس أجود اللباس وأغلاه وأجمله، قال الزبيري: كان مالك يلبس الثياب العدنية الجياد، والخراسانية والمصرية المرتفعة البِيض، ويتطيب بطيب جيد ويقول: «ما أُحب لأحد أنعم الله عليه إلا أن يُرى أثرُ نعمته عليه». وكان يقول: «أحب للقارئ أن يكون أبيض الثياب»

حفظ الإمام مالك القرآن الكريم في صدر حياته، كما هو الشأن في أكثر الأسر الإسلامية التي يتربى أبناؤها تربية دينية، واتجه بعد حفظ القرآن الكريم إلى حفظ الحديث، فوجد من بيئته محرضاً، ومن المدينة موعظاً ومشجعاً، ولذلك اقترح على أهله أن يذهب إلى مجالس العلماء ليكتب العلم ويدرسه، فذكر لأمه أنه يريد أن يذهب فيكتب العلم، فألبسته أحسن الثياب وعممته، ثم قالت: «اذهب فاكتب الآن»، وكانت تقول: «اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه».

ويظهر أنه لهذا التحريض من أمه جلس إلى ربيعة الرأي أول مرة، فأخذ عنه فقه الرأي وهو حدث صغير على قدر طاقته، وكان حريصاً منذ صباه على استحفاظ ما يكتب، حتى أنه بعد سماع الدرس وكتابته يتبع ظلال الأشجار يستعيد ما تلقى، ولقد رأته أخته كذلك فذكرته لأبيها فقال لها: «يا بنية، إنه يحفظ أحاديث رسول الله.

لقد جالس مالك العلماءَ ناشئاً صغيراً، ولزم فقيهاً من فقهائهم وعالماً من علمائهم، وقد ذكر الإمام مالك ذلك فقال: كان لي أخ في سن ابن شهاب، فألقى أبي يوماً علينا مسألة، فأصاب أخي وأخطأت، فقال لي أبي: «ألهتك الحمام عن طلب العلم!» (وكان يتلهّى بتربية الحمام في مطلع حياته) فغضبت، وانقطعت إلى ابن هرمز سبع سنين (وفي رواية: ثماني سنين) لم أخلطه بغيره، وكنت أجعل في كمي تمراً، وأناوله صبياناً وأقول لهم: «إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا مشغول». وقال ابن هرمز يوماً لجاريته: «من بالباب؟»، فلم تر إلا مالكاً، فرجعت فقالت: «ما ثم إلا ذاك الأشقر»، فقال: «ادعيه فذلك عالم الناس»، وكان مالك قد اتخذ تياناً محشواً للجلوس على باب ابن هرمز يتقي به برد حجر هناك. وكان يقول: وكنت آتي ابن هرمز بكرة فما أخرج من بيته حتى الليل.

لقد كانت المدينة المنورة في عصر مالك مهداً للعلم، إذ كان بها عدد من التابعين، وقد لازم مالك ابن هرمز ملازمة لم يخلطه فيها بغيره، ثم اتجه إلى الأخذ من غيره من العلماء مع مجالسة شيخه الأول، فوجد في نافع مولى ابن عمر بغيته، فجالسه مع مجالسة ابن هرمز وأخذ عنه علماً كثيراً، قال الإمام مالك: «كنت آتي نافعاً نصف النهار، وما تظلني الشجرة من الشمس أتحيَّن خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة، كأني لم أره، ثم أتعرض له فأسلم عليه وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: «كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟»، فيجيبني، ثم أحبس عنه، وكان فيه حدة».

كما أخذ الإمام مالك عن ابن شهاب الزهري، قال مالك: قدم علينا الزهري فأتيناه ومعنا ربيعة، فحدثنا نيفاً وأربعين حديثاً، ثم أتيناه في الغد، فقال: «انظروا كتاباً حتى أحدثكم، أرأيتم ما حدثتكم به أمس؟»، قال له ربيعة: «ههنا من يرد عليك ما حدثت به أمس»، قال: «ومن هو؟»، قال: «ابن أبي عامر»، قال: «هات»، فحدثته بأربعين حديثاً منها، فقال الزهري: «ما كنت أرى أنه بقي أحد يحفظ هذا غيري».

ولقد لازم مالكاً منذ صباه الاحترامُ التامُّ للأحاديث النبوية، فكان لا يتلقاها إلا وهو في حال من الاستقرار والهدوء توقيراً لها وحرصاً على ضبطها، ولذلك ما كان يتلقاها واقفاً، ولا يتلقاها في حال ضيق أو اضطراب، حتى لا يفوته شيء منها.كما أن مالكاً لم يكن يدخر مالاً في سبيل طلب العلم، حتى قال ابن القاسم: «أفضى بمالك طلبُ العلم إلى أن نَقض سقفَ بيته فباع خشبَه، ثم مالت عليه الدنيا من بعد».

عَمَله ومصدر رزقه

لم تَذكر كتبُ المناقب والأخبار مواردَ رزق الإمام مالك موضّحةً مبيّنةً، ولكن جاءت أخبارٌ منثورةٌ تكشف عن موارد رزقه، والراجح أن مالكاً كان يعمل بالتجارة، فقد قال تلميذه ابن القاسم: «إنه كان لمالك أربعمئة دينار يتجر بها، فمنها كان قوام عيشه». كما كان الإمام مالك يَقبل هدايا الخلفاء، ولا يعتريه شك في حل أخذها، وإن كان يتعفف عن الأخذ ممن دونهم، فقد سُئل عن الأخذ من السلاطين فقال: «أما الخلفاء فلا شك، يعني أنه لا بأس به، وأما من دونهم فإن فيه شيئاً»، ويُروى أن الخليفة هارون الرشيد أجاره بثلاثة آلاف دينار، فقيل له: «يا أبا عبد الله، ثلاثة آلاف تأخذها من أمير المؤمنين!»، فقال: «لو كان إمامَ عدل فأنصف أهل المروءة لم أر به بأساً»، فهو كان يقبلها لأنها برأيه من إنصاف أهل المروءة.

بعد أن اكتملت دراسة مالك للآثار والفُتيا، اتخذ له مجلساً في المسجد النبوي للدرس والإفتاء، ولقد قال في هذا المقام وفي بيان حاله عندما نزعت نفسه إلى الدرس والإفتاء: «ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس، حتى يشاوِر فيه أهلَ الصلاح والفضل والجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلاً جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني موضع لذلك».

وقد كان جلوس مالك للإفتاء في المسجد النبوي بعد أن اكتمل عقله ونضج فكره، وفي حياة بعض شيوخه الذين عاشوا بعد أن نضج واكتمل، ولم تُبين المصادر السنَّ التي جلس فيها مالك للإفتاء بالتعيين الذي لا شك فيه.

جلس مالك في المسجد النبوي يُفتي ويروي الحديث النبوي لطلاب الحديث، وكان مجلسُه في المسجد النبوي في المكان الذي كان عمر بن الخطاب يجلس فيه للشورى والحكم والقضاء، وكان مالك باختياره ذلك المجلس يتأثر عمر بن الخطاب في جلوسه كما تأثره في فتاويه وأقضيته، وهو المكان الذي كان يوضع فيه فراش النبي محمد إذا اعتكف، وجاء في طبقات ابن سعد: «كان مجلس مالك في مسجد رسول الله  تجاه خوخة عمر بين القبر والمنبر». وكذلك فعل مالك في مسكنه، فقد كان يسكن في دار عبد الله بن مسعود، ليقتفي بذلك أثر عبد الله بن مسعود.

صفة درسه

كان درس الإمام مالك أول الأمر في المسجد، ثم صار درسُه في بيته بسبب مرضه الذي لم يكن يعلنه، فقد كان مصاباً بسلس البول، ولم يخبر بذلك إلا يوم وفاته، قال الإمام مالك: «لولا أني في آخر يوم ما أخبرتكم، مرضي سلس بول، كرهت أن آتي مسجد رسول الله بغير وضوء، وكرهت أن أذكر علتي فأشكو ربي».

وقد التزم الإمامُ مالك في درسه الوقارَ والسكينةَ، والابتعادَ عن لغو القول وما لا يَحسن بمثله، وكان يرى ذلك لازماً لطالب العلم، يُروى أنه نصح بعض أولاد أخيه فقال: «تعلّم لذلك العلم الذي علمته السكينة والحلم والوقار»، وكان يقول: «حق على من طلب العلم أن يكون فيه وقار وسكينة وخشية، أن يكون متبعاً لآثار من مضى، وينبغي لأهل العلم أن يخلوا أنفسهم من المزاح، وبخاصة إذا ذكروا العلم»، وكان يقول: «من آداب العالم ألا يضحك إلا تبسماً». وقد قال الواقدي في مجلس درسه: «كان مجلسه مجلس وقار وعلم، وكان رجلاً مهيباً نبيلاً، ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط ولا رفع صوت، وإذا سُئل عن شيء فأجاب سائله لم يقل له من أين هذا».

ويصف مطرفٌ تلميذ الإمام مالك حاله عندما انتقل درسه إلى بيته فيقول: كان مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية، فتقول لهم: «يقول لكم الشيخ: أتريدون الحديث أم المسائل؟»، فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم: «اجلسوا»، ودخل مغتسله، فاغتسل وتطيب ولبس ثياباً جدداً، ولبس ساجة وتعمم، وتُلقى له المنصة، فيخرج إليهم قد لبس وتطيب، وعليه الخشوع، ويوضع عودٌ فلا يزال يتبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله  وقال عبد الله بن المبارك: كنت عند مالك وهو يحدثنا حديث رسول الله . فلدغته عقرب بست عشرة مرة ومالك يتغير لونه ويصفر ولا يقطع حديث رسول الله ، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت: «يا أبا عبد الله، لقد رأيت اليوم منك عجباً؟»، فقال: «نعم، إنما صبرت إجلالاً لحديث رسول الله.

وكان الإمام مالك يتحرز أن يخطئ في إفتائه، وكان يبتدئ إجابته بقوله: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله»، وكان يكثر من «لا أدري»، وكان يعقب كثيراً فتواه بقوله: «إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين». ولقد قال عبد الرحمن بن مهدي: سأل رجل مالكاً عن مسألة، وذكر أنه أُرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب، فقال له: «أخبر الذي أرسلك أن لا علم لي بها»، فقال: «ومن يعلمها؟»، قال: «الذي علمه الله». وقال معن بن عيسى: سمعت مالكاً يقول: «إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه». كما كان الإمام مالك ينهى عن الجدال في الدين ويقول: «المراء والجدال في الدين يذهب بنور العلم من قلب العبد». ورأى قوماً يتجادلون عنده فقام ونفض رداءه وقال: «إنما أنتم في حرب».

فقهه وأصول مذهبه

لم يكن للإمام مالك أصولٌ فقهية بالمعنى المعروف، ولم يأخذ عنه أحد من أصحابه منهاجاً أو أصلاً مما عليه فقهه، ولكن استطاع أصحابه ثم أصحابهم من بعدهم أن يستقصوا فقهه، وينتزعوا منه الأصول التي بنى عليها، وأما أصول المذهب المالكي فهي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، وعمل أهل المدينة، والقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان، والعرف والعادات، وسد الذرائع، والاستصحاب.

محنته

كان الإمام مالك يبتعد عن الثورات والتحريض عليها، وعن الفتن والخوض فيها، ومع ذلك فقد نزلت به محنة في العصر العباسي في عهد أبي جعفر المنصور، وقد اتفق المؤرخون على نزول هذه المحنة به، وأكثر الرواة على أنها نزلت به سنة 146هـ، وقيل سنة 147هـ، وقد ضُرب في هذه المحنة بالسياط، ومُدت يده حتى انخلعت كتفاه، وقد اختلفوا في سببها على أقوال كثيرة أشهرها: أنه كان يحدث بحديث: «ليس على مستكره طلاق»، فاتخذ مروجو الفتن من هذا الحديث حجةً لبطلان بيعة أبي جعفر المنصور، وذاع هذا وشاع في وقت خروج محمد بن عبد الله بن حسن النفس الزكية بالمدينة، فنُهي عن أن يحدث بهذا الحديث، ثم دُس إليه من يسأله عنه، فحدث به على رؤوس الناس، فضُرب.

أما الذي أنزل المحنة بالإمام مالك فهو والي المدينة جعفر بن سليمان، وكان ذلك من غير علم أبي جعفر المنصور، لأن المحنة كانت بعد مقتل محمد النفس الزكية سنة 145هـ، أي بعد أن اجتُثت الفتنة من جذورها، ولكن تذكر رواية أخرى أن أبا جعفر المنصور هو الذي نهى عن التحديث بالحديث، وأنه دس له من يسمع منه، فرآه قد حدث به.

ويظهر أن أهل المدينة عندما رأوا فقيهها وإمامها ينزل به ذلك النكال سخطوا على بني العباس وولاتهم، وخصوصاً أنه كان مظلوماً، فما حرض على الفتنة ولا بغى ولا تجاوز حد الإفتاء، ولم يفارق خطته قبل الأذى ولا بعده، فلزم درسه بعد المحنة لا يحرض ولا يدعو إلى فساد، فكان ذلك مما زادهم نقمة على الحاكمين، وجعل الحكام يحسون بمرارة ما فعلوا، لذلك عندما جاء أبو جعفر المنصور إلى الحجاز حاجاً أرسل إلى مالك يعتذر إليه، قال الإمام مالك:

«لما دخلت على أبي جعفر، وقد عهد إلي أن آتيه في الموسم، قال لي: «والله الذي لا إله إلا هو ما أمرتُ بالذي كان ولا علمتُه، إنه لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنتَ بين أظهرهم، وإني أخالك أماناً لهم من عذاب، ولقد رفع الله بك عنهم سطوة عظيمة، فإنهم أسرع الناس إلى الفتن، وقد أمرت بعد والله أن يؤتى به من المدينة إلى العراق على قتب، وأمرت بضيق محبسه والاستبلاغ في امتهانه، ولا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما لك منه»، فقلت: «عافى الله أمير المؤمنين وأكرم مثواه، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله وقرابته منك»، قال: «فعفا الله عنك ووصلك».»

وفاته

مقبرة البقيع في المدينة المنورة، حيث دفن الإمام مالك بن أنس
مرض الإمام مالك اثنين وعشرين يوماً، ثم جاءته منيته، وأكثر الرواة على أنه مات سنة 179هـ، وقد قال فيه القاضي عياض: «إنه الصحيح الذي عليه الجمهور»، واختلفوا في أي وقت منها، والأكثرون على أنه مات في الليلة الرابعة عشرة من ربيع الثاني منها.وفي رواية عن بكر بن سليم الصراف قال: دخلنا على مالك في العشية التي قبض فيها، فقلنا: «يا أبا عبد الله كيف تجدك؟»، قال: «ما أدري ما أقول لكم، ألا إنكم ستعاينون غداً من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب»، قال: «ما برحنا حتى أغمضناه، وتوفي رحمه الله يوم الأحد لعشر خلون من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة». وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم أميرُ المدينة، وحضر جنازته ماشياً، وكان أحدَ من حمل نعشَه. وكانت وصية الإمام مالك أن يُكفَّن في ثياب بيض، ويُصلى عليه بموضع الجنائز، فنُفِّذت وصيته، ودُفن بالبقيع.

وقد رثا الإمامَ مالك كثيرٌ من الناس، منهم أبو محمد جعفر بن أحمد بن الحسين السراج بقوله:

سقى الله جدثاً بالبقيع لمالك        من المُزْن مرعادَ السحائب مبراقُ
إمامٌ موطاه الذي طبَّقت به        أقاليمُ في الدنيا فساحٌ وآفاقُ
أقام به شرعَ النبي محمدٍ        له حذرٌ من أن يُضام وإشفاقُ
له سندٌ عالٍ صحيحٌ وهيبةٌ        فللكل منه حين يرويه إطراقُ
وأصحابه بالصدق تعلم كلَّهم        وإنهم إن أنت ساءلت حُذَّاقُ
ولو لم يكن إلا ابنُ إدريس وحده        كفاه على أن السعادة أرزاقُ



كتبه ومؤلفاته

الموطأ

يُعد كتاب الموطأ من أوائل كتب الحديث وأشهرها في ترتيبه وتركيبه، وفي اجتهاده ونقله، وفي حديثه وفقهه، وقد كان أعظمَ مرجع في عصره وأقدمَه، قال القاضي عياض: «لم يُعتنَ بكتاب من كتب الفقه والحديث اعتناءَ الناس بالموطأ، فإن الموافق والمخالف أجمع على تقديمه وتفضيله وروايته وتقديم حديثه وتصحيحه، وقد اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك عددٌ كثيرٌ من المالكيين وغيرهم من أصحاب الحديث والعربية».[85][86] وقد أثنى كثيرٌ من العلماء على الموطأ، قال الإمام الشافعي: «ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله عز وجل أنفع من موطأ مالك، وإذا جاء الأثر من كتاب مالك فهو الثُّريَّا»، وقال أيضاً: «ما بعد كتاب الله تعالى كتابٌ أكثرُ صواباً من موطأ مالك»، وقال ابن مهدي: «لا أعلم من علم الإسلام بعد القرآن أصح من موطأ مالك»، وقال ابن وهب: «من كتب موطأ مالك فلا عليه أن يكتب من الحلال والحرام شيئاً»، وسُئل الإمام أحمد بن حنبل عن كتاب مالك بن أنس فقال: «ما أحسنه لمن تَديَّن به».

وقد قام كثير من العلماء بشرح كتاب الموطأ، ومن أشهر هذه الشروح:


«التمهيد، لما في الموطأ من المعاني والأسانيد» و«الاستذكار، لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار، فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار»، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، المتوفى سنة 463هـ.
«المقتبس، شرح موطأ مالك بن أنس»، لأبي محمد عبد الله بن محمد بن السِّيد البَطَلْيوسي المالكي، المتوفى سنة 521هـ.
«المسالك في شرح موطأ مالك»، و«القبس على موطأ مالك بن أنس»، لمحمد بن عبد الله بن أحمد المشهور بالقاضي أبي بكر بن العربي المالكي المعافري الأندلسي، المتوفى سنة 543هـ.
«كشف المُغطَّا عن الموطا» و«تنوير الحوالك» و«إسعاف المُبَطَّأ برجال الموطأ» و«تجريد أحاديث الموطأ» لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الشافعي المصري، المتوفى سنة 911هـ.
«إتحاف العابد الناسك بالمنتقى من موطأ مالك»، لعمر بن أحمد بن علي الشماع الحلبي الشافعي، المتوفى سنة 936هـ.
«الفتح الرحماني، شرح موطأ محمد بن الحسن الشيباني»، لإبراهيم بن حسين بن أحمد الحنفي المعروف بالشيخ بيري زاده، مفتي مكة، المتوفى سنة 1099هـ، وهو شرح على الموطأ برواية محمد بن الحسن الشيباني.

مؤلفات غير الموطأ

لم يُعرف الإمامُ مالكٌ بكتاب أكثر شهرة من كتابه الموطأ، وكثير من الناس لا يعلم له غيره، والواقع أن له تآليف غير الموطأ، قال ابن فرحون في كتابه "الديباج المذهب": «فمن أشهرها -غير الموطأ- رسالته في القدر، والرد على القدرية، إلى ابن وهب كما يقول القاضي عياض، ومنها: كتابه في النجوم، وحساب مدار الزمان ومنازل القمر، وهو كتاب جيد جداً، وقد اعتمد عليه الناس في هذا الباب، وجعلوه أصلاً».

ومن كتبه أيضاً: رسالته في الأقضية، كتب بها إلى بعض القضاة عشرة أجزاء، ومن ذلك: رسالته المشهورة في الفتوى، أرسلها إلى أبي غسان محمد بن مطرف، ومن ذلك: رسالته المشهورة إلى هارون الرشيد في الآداب والمواعظ، ومن ذلك: كتابه في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد بن عبد الرحمن المخزومي. وقد رُوي عن أبي العباس السراج النيسابوري أنه قال: «هذه سبعون ألف مسألة لمالك»، وأشار إلى كتب منضَّدة عنده كتبها، وقد نُسب إلى مالك كتاب يُسمى "السِّيَر" من رواية القاسم عنه.

من أقواله المأثورة وحِكَمه

ورد عن الإمام مالك كثيرٌ من الأقوال المأثورة والحكم المشهورة في العلم والعمل، ومما جاء عنه في العلم وآداب المتعلِّمين قوله: «ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب». وقال أيضاً: «طلب العلم حَسَنٌ لمن رُزق خيرُه، وهو قسم من الله، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي فالزمه». وقال: «العلم نَفورٌ لا يأنس إلا بقلب تقي خاشع». وقال: «ينبغي للرجل إذا خُوِّل علماً وصار رأساً يشار إليه بالأصابع، أن يضع التراب على رأسه، ويمقت نفسه إذا خلا بها، ولا يفرح بالرياسة، فإنه إذا اضطجع في قبره وتوسد التراب ساءه ذلك كله».[99] وقال لابن وهب: «اتق الله واقتصر على علمك، فإنه لم يقتصر أحد على علمه إلا نفع وانتفع، فإن كنت تريد بما طلبت ما عند الله فقد أصبت ما تنتفع به، وإن كنت تريد بما تعلمت الدنيا فليس في يدك شيء».

كما جاء عن الإمام مالك أقوالٌ في أحوال القلوب والسلوك وتربية النفس، منها قوله: «من أحب أن تُفتح له فُرجةٌ في قلبه فليكن عمله في السر أفضل منه في العلانية». وقال: «الزهد في الدنيا طِيب المكسب وقِصَر الأمل». وقال: «نقاء الثوب وحسن الهمة وإظهار المروءة جزء من بضع وأربعين جزءاً من النبوة». وقال: «إن كان بغيُك منها ما يكفيك، فأقَلُّ عيشها يغنيك، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى». وقال خالد بن حميد: سمعته يقول: «عليك بمجالسة من يزيد في علمك قولُه، ويدعوك إلى الآخرة فعلُه، وإياك ومجالسة من يعلِّلُك قولُه، ويعيبك دينُه، ويدعوك إلى الدنيا فعلُه». وكان الإمام مالك يَكره كثرةَ الكلام ويعيبه، ويقول: «لا يوجد إلا في النساء والضعفاء».