محمد أبوغدير :

 

التفكير الإيجابي هو :

اختيار الأفكار التي تُشْعِرُكَ بالارْتِياح والتَّفاؤُل - عند مواجه موقف سلبي - وتجنب الأفكار المُثيرة للقلق والألم والغضب .

تعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحبه الكرام للكثير من الأذى والمحن من المشركين - في مواقف متعددة - حيث لاقوا الجوع والحرمان ، والنَصَب والتعب الشديد ، وقد تلقى صلى الله عليه وسلم ذلك كله صابرا محتسبا ، مشفقا على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب ، واثقا من نصر ربه ، ونذكر من ذلك موقفا واحدا يتجلى فيه تفكيره صلى الله عليه وسلم الإيجابي وروحه المتفائلة ، وبيانه في الآتي :

عن عائشة رضي الله عنها زوج الحبيب المصطفى أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ( هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : " لقد لقيت ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلالى فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال فسلم علي ، ثم قال : يا محمد إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، ولا يشرك به شيئا ) رواه البخاري .

 

وتتضح ملامح التفكير الإيجابي عند رسول الله في هذه القصة من خلال المشاهد الآتية :

 

١ . ارتفاعه صلى الله عليه وسلم عن جراحه وآلامه :

 

ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف داعيًا ، يحدوه الأمل في هداية ثقيف وذهب إليهم بقلب يحمل الخير والهدى للعالمين ، إلا انه لاقى الأذى البدني والألم النفسي من أهل الطائف ، فقد ذكرت كتب السيرة هذه الوقائع التي لم تذكر في الحديث السالف بيانه ، أن رسول الله لما انتهى إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة ، وقد وقع منهم استهزاء بشخص الرسول الكريم ، وسلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم فرجموه بالحجارة على قدميه حتى اختضبت نعلاه بالدماء ، وكان إذا قعد إلى الأرض - من شدة آلامه - يأخذون بعضديه فيقيمونه ، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون .

ولم ينشغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بآلامه وجراحه ، والدليل على ذلك أنه لم يذكر في حديثه الذي رواه السيد عائشة ما وقع على نفسه الزكية من استهزاء وما لحق بجسده الطاهر من جراح والتي حكتها كتب السيرة .

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم صاحب التفكير الإيجابي والروح المتفائلة يتناسى آلامه ومعاناته ليحلق في الأفق البعيد بنظرة إيجابية مستقبلية كلها أمل وثقة في توفيق الله تعالى .

 

٢ . رسول الله يشكو إلى الله ويطلب منه المدد :

 

فلما شعر صلى الله عليه وسلم بعجزه عن تبليغ رسالته توجه إلى ربه فقال :

"اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك" .

وكان دعاؤه صلى الله عليه وسلم قد خلا من طلب إهلاك قومه أو تعذيبهم ، غير عابئ بجراحه البدنية وآلامه النفسية السالف بيانها ، فقط امتزجت كلماته بحرقه وجدانه الخائف على نفسه من غضب الله .

 

٣ . رفض رسول الله إهلاك قومه ورجى هدايتهم :

 

ومع جراحه وآلامه الشديدة السالف بيانها عفى صلى الله عليه وسلم عن الجناة وإعراض عن الجاهلين ، ورفض أن يؤاخذ أهل ثقيف بما صدر منهم ، فلم يستجب لطلب ملك الجبال حين قال :

 إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ ‘‘ ، فقال صلى الله عليه وسلم بكل رحمة وعفو ، ‘‘ بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ’’

وعفى عنهم ليس طمعا في هدايتهم أنفسهم وإنما في صلاح ذريتهم القادمة .

 

٤ . بشائر نصر الله وتأييده للنبي :

 

جلس رسول الله إلى الحائط ليستريح بعض الوقت فرآه أصحاب الحائط وهما عتبة وشيبة ابنا ربيعة كانا كافرين من مكة ولهما أملاك بالطائف ، وقد أشفقا على رسول الله لما وصل إليهما حاله من الألم والتعب والحزن، فرقت القلوب الكافرة له وحنت ، فأخذا عنقودًا من العنب ووضعاه في طبق ، وأرسلا به غلامهما إلى رسول الله ، كان هذا الغلام نصرانيًّا اسمه عَدَّاس وقد أسلم عدَّاس لما رأى وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إسلامه وَمْضَةٌ في الظلمة .

 

٥ . ثمرات التفكير الإيجابي والروح المتفائلة :

 

وكان من نتائج تلك النظرة الإيجابية والروح المتفائلة من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ أنه في سنوات معدودة جاء نصر الله والفتح ، ودخلت مكة ثم الطائف في دين الله أفواجا ، وذلك في السنة الثامنة من الهجرة ، وتحقق أمل رسول الله بأن أخرج الله من أصلابهم من عبدوا الله ولم يشركوا به شيئًا ، وحدثت مأساة الردة الضخمة في جزيرة العرب بعد وفاة رسول الله ، وارتدت جزيرة العرب بكاملها، ولم يثبت على الإيمان إلا ثلاث مدن فقط في الجزيرة العربية ، وهذه المدن هي مكة والطائف و المدينة المنورة .

وهكذا نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن نتعامل مع المواقف الحياتية التي تمر به - مؤلمة كانت أو مفرحة - بعقلية إيجابية بعيدة المدى وبنظرة متفائلة إلى مستقبل أفضل ، وهذه هي الصفات التي تدفع صاحبها إلى مكان السمو والرفعة .


وتلك هي تربية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته على التفكير الإيجابي والروح المتفائلة ، فليكن الرسول زعيمنا وقدوتنا في التنمية البشرية