21/04/2011
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وبعد..
فالحمد لله الذي جعل الشكر عملاً؛ فقال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) (سبأ: من الآية 13)، وجعل السعي في الأرض لإعمارها والابتغاء من فضل الله عبادةً من العبادات، فالله الذي أمر بالاستجابة للصلاة والسعي لذكره هو الذي أمر بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضله بعد انقضاء الصلاة، واعتمد العمل دعامةً أساسيةً للاقتصاد والتنمية، ودعا إلى الكسب وزيادة الإنتاج ورتَّب العقاب على أصحاب الطاقات المعطَّلة أو الضائعة الذين لا يحسنون استثمارها.
وقد حثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة على الإنتاج والتنمية في كثير من الأحاديث، منها قوله: "لا تزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عنْ أربعٍ؛ عنْ عُمُرِهِ فيما أفناهُ، وعنْ جسدِه فيما أبْلاهُ، وعنْ مالهِ مِنْ أيْنَ أخذهُ وفيما أنْفَقَهُ، وعنْ عِلمِهِ ماذا عَمِلَ بهِ"، وجعل المسلم يستعيذ دائمًا من العجز والكسل، فليس من ثقافة المسلم ولا من طبيعته القبول بهما ولا التسليم لهما.
وقد حثَّنا المصطفى صلى الله عليه وسلم على ضرورة التخلص من كل أسباب الضعف التي تعوق تقدُّم الأمة: مثل ضعف الإرادة كالهم والحزن، وضعف الإنتاج بالعجز والكسل، وضعف القلب بالجبن والبخل، وضعف العزة والكرامة بالدَّين والقهر، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال".
وتقديرًا لقيمة الوقت والجهد وأثرهما في الإنتاج ونهضة الأمة؛ ذمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم المضيِّعين للوقت والطاقة في قوله: "نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
لقد رفعت الثورات الشعبية شعار "إسقاط النظام"، وها هي الأنظمة قد تساقطت أو بدأت في التساقط، وهذا يدفعنا إلى التفكير في المهمة التالية بعد إسقاط النظام؛ إنها المهمة الشاقة والأهم والأصعب، والتي تذكِّرنا بما جاء في الأثر: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، وهي مهمة تغيير المجتمع ودفعه نحو الإنتاج والتنمية، ورغم أن هذا الأمر ليس هيِّنًا، وسوف يستغرق الكثير من الوقت؛ فإنه الضمانة الوحيدة للانطلاق بالمجتمع من تلك الهوَّة السحيقة التي وضعه فيها النظام السابق.
إن ما ننشده الآن هو إنشاء واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد، يقوم على إطلاق المبادرات المحلية وتنمية المجتمع نفسه بنفسه، فيما يُسمى بـ"التنمية الذاتية"، والتي تخلق واقعًا جديدًا، يكون فيه المواطن أكثر استقلالاً وحريةً ونشاطًا، وأكثر مشاركةً في حاضر أمته ومستقبلها؛ بناءً وتضحيةً ومشاركةً وتفاعلاً مع قضاياها ومشكلاتها والبحث الجاد عن حلول جذرية لها.
لقد كانت الحرية والتنمية هي التحدي الأساسي في بناء الأوطان، ويعبِّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)) (البلد).. فهذه هي المهمة الكبرى لنا جميعًا: الحرية والتنمية وليس المكاء والتصدية.
يقول الله تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35)) (يس).. وهنا تأتي فكرة (وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) من مشروعات وحرف وصناعات إنتاجية تسهم في التنمية والرقي والتقدم، وتضع حلاًّ لجيوش العاطلين.
ويقول الله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)) (النحل).. فيعلمنا الله عزَّ وجلَّ أنه قد أرشد النحل وحيًا إلى أمور ثلاثة: كيف تسكن؟ وماذا تأكل؟ وأن تسلك سبل ربها ذللاً؛ فقد أعطاها السكن والطعام والحرية، وهي نفس الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يعظِّمَها ويحافظَ عليها، وكما فعل النحل يفعل الإنسان، فيخرج من عمله خيرًا كثيرًا لمجتمعه، وقد شبَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنحلة والنخلة، والتشابه والتطابق بينهما غاية في الإعجاز.
إن الخوف على الثورة الآن ليس من الثورة المضادة، وإن كانت أذنابها ما زالت تتخلل كيان المجتمع؛ ولكن الخوف من أن تتوقف عجلة الإنتاج والتنمية في الوطن، ومن ثم فنحن في حاجة إلى رجال يقيلون عثرة الأوطان من تلك العسرة والشدة، نحتاج إلى الرجال "القدوة" الذين لا يسألون عن الرزق الوفير دائمًا سؤالهم عن الواجب الكبير نحو الوطن، والذي عبَّر عنهم القرآن بكلمات (أُوْلُوا بَقِيَّةٍ) كما جاء في الآية: (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ) (هود)، هؤلاء هم الذين يضطلعون بمهمة الإنقاذ في ساعة العسرة التنموية.
إننا في حاجة إلى مثل "عثمان" و"ابن عوف" من جديد، من الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم؛ لا لشيء إلا ابتغاء رضا الله والجنة.
وخلاصة القول: إن العمل والإنتاج هما المؤهلات التي يستحق أصحابها الخلافة في الأرض، والقرآن الكريم يحدثنا في قصة "نوح" عن صناعة السفن، وفي قصة "داود" عن إلانة الحديد وصناعة الدروع، ويحدثنا عن التخطيط الاقتصادي لمدة أربع عشرة سنةً في قصة "يوسف"، كما يحدِّثنا في قصة "ذو القرنين" عن صناعة السدود الضخمة، كما يحدِّثنا عن منافع الحديد العسكرية والمدنية في سورة خاصة تحمل اسم "الحديد"، وكذلك مدح ذي القرنين في حسن توظيف الأخذ بالأسباب (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)) (الكهف)، فلا عجب أن قامت- في ظل هذا الدين- دولة مترامية الأطراف، ورثت أعظم إمبراطوريتين في الأرض، أسسها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسس متينة ودعائم قوية جامعة بين الدين والدنيا وقائمة على الإنتاج والتنمية.
فهيا إلى العمل والإنتاج والتنمية، وتغليب مصالح الوطن على المصالح الشخصية، ولنتسابق في تقديم النماذج العملية والقدوة الصالحة في تقديم الحلول العملية المخلصة لمشكلات أوطاننا، مستعينين بعد الله بعلمائنا ومفكرينا وبخطط علمية مدروسة وبقدراتنا ومقدَّراتنا.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.