27/05/2010
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه، وبعد..
لو عرف كل منا مكانته، التي أولاها الإسلام كلَّ الاهتمام في هذا الوجود، لأدرك قيمةَ ذاته وتربيتها وتهذيبها، خاصةً أننا جميعًا وُلدنا على الفطرة، وعلينا أن ندرك مسئولية الحفاظ على صفحتنا البيضاء الناصعة في سجلِّ الحياة، فالشعور بالمسئولية، والابتعاد عن الفوضوية والعشوائية والأنانية، وتزكية النفس والرقي الدائم بها، من قواعد الانطلاق والمشاركة، فما أشدَّ حاجتنا إلى التقوَى التي تكسبنا الثقة بالنفس والتوكل على الله، والاستعانة به، والاعتماد عليه، وما أعظم ما نتسلَّح به مع التقوى، من الوعي الذي يكسبنا التعقُّل والرشاد والسلوك المتوازن في الحياة.. ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108).
حياة الذاتيين إقدام ومسارعة
فهـذا ذو الجوشن الضبابي، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام بعد بدر، وقال له: "يا ذا الجوشن! ألا تُسلِم فتكون من أول هذه الأمة؟!" فامتنع وقال: إن تغلب على الكعبة وتقطنها، قال صلى الله عليه وسلم: "لعل إن عشتَ أن ترى ذلك"، يقول ذو الجوشن: فوالله إذ أقبل راكبًا، فقلت: من أين؟ قال: من مكة، قلت: ما الخبر؟ قال: غلب عليها محمد وقطنها، قال: قلت: "هَبِلَتني أمي! لو أسلمتُ يومئذٍ" (أسد الغابة).
وفي يوم اليمامة، حين رأى خالد وطيس المعركة، يحمى ويشتد، التفت إلى البراء بن مالك، وقال: إليهم يا فتى الأنصار.. فالتفت البراء إلى قومه وقال: يا معشر الأنصار لا يُفكِّرن أحدٌ منكم بالرجوع إلى المدينة، فلا مدينةَ لكم بعد اليوم.. وإنما هو الله وحده ثم الجنة.. ثم حمل على المشركين وحملوا معه، فهذه أول وأهم الواجبات نزع الوهن من القلوب، وابدأ بقلبك أنت.
من أين تنطلق ذاتيتنا؟
لقد ربط الله تعالى الانطلاق في التأثير بالإصلاح والتغيير، بالقوة الذاتية، يقول تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ (مريم: 12)، قوة في تفجير الطاقات، وقوة في مواجهة الصعاب، وقوة في العلو بقيمة النفس، وقوة في الثقة والأمل، رغم العقبات والمحن، فليس كالشدائد تصقل الإرادة وتقويها، هنالك تنتصر الإرادة!!.
ومما يقويها مواجهة الإحباط واليأس من الإصلاح والتغيير، فما هي إلا أراجيف تدعو إلى الكسل والإهمال واللامبالاة، مثل: علام تدخلون الانتخابات والنتائج معلومة مسبقًا؟ وغيرها من المثبطات كثير, وترويض هذه المثبطات تكون بالاستمرار في العمل الهادف المنظم المتواصل، الذي يظهر فيه الأداء الذاتي في العمل، يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)﴾ (الزخرف)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "عرفت فالزم"؛ أي المسئولية مسئوليتك، وأنت على يقين من سمو ما تحمل من أمانة وعظم ما تنتظر من أجر.
ومن هنا ننطلق أحرارًا من كلِّ قيد، فالحرية هي روح العمل المتواصل، والحرية هي التغلب على كل مظاهر القهر والاستبداد الخارجي، وكذلك العبودية الداخلية للشهوات، بما في ذات الإنسان من حب للحرية، وبما في أعماق نفسه من رغبة في أن يعيش حرًّا، ولا يتحقق ذلك إلا بعبودية خالصة لله تعالى، تقاوم الاستبداد الخارجي والاستعباد الداخلي، يقول رسول الله صلى الله عليهم وسلم: "مَن أعطى الذلة من نفسه طائعًا غير مكره فليس منا"، "من مات دون ماله فهو شهيد، من مات دون أرضه فهو شهيد، من مات دون عرضه فهو شهيد"، وقوله عز وجل: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ (مريم: 59)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة"، فبهذه الفاعلية الذاتية تنهض أمتنا، وعندها ستدب الروح في أداء الأعمال، وفي غيابها تتحول المجهودات إلى عمل آلي لا عقل فيه، ولا إدراك، ولا إتقان.
بالإيجابية نبني أمتنا
من حق الأمة على أبنائها: أن تكون الأمة حاضرةً في أذهانهم وعقولهم أنّى كانوا، وأن يستشعروا مسئوليتهم كاملةً، وهذا الحق على أبناء الأمة ليس جديدًا عليهم، بل هو ما قامت به الأمة على يد الإيجابيين من أبنائها، حينما حوّلوا الأفكار والقيم والمفاهيم إلى ممارسات وسلوكيات في الواقع، يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ (النحل).
وتاريخ البشرية يؤكد ذلك فيقول: إن الأمم والحضارات تسقط وتنهار بسبب عوامل انهيار داخلية وليست خارجية، تتعلق بالروح والإرادة والخلق، وإن سقوط الأمم وانهيارها له سنن إلهية عادلة، أولاً أن الله عز وجل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فبيد أبناء الأمة أنفسهم تغيير حالهم إلى الأفضل، فمهما ساءت أحوال الأمة، فإن الإصلاح ممكن في أي وقت شرط توفر الإرادة القوية، وإن مسئولية إنقاذ الأمم من الانهيار هي مسئولية كل أبنائها بلا استثناء، كل في مجاله، وبحسب إمكاناته، عن طريق شعور كل مَن يشارك في الإنقاذ، بالمسئولية والثقة في قدراته على الإصلاح والتغيير، ووفق هذه التأكيد فنهضة أمتنا ممكنة بل وقائمة، فنحن نمتلك كل مقومات القوة والنهضة، بشرط أن نعرف كيف نستخدمها لصالح وخدمة أمتنا.
وفي القرآن الكريم كثير من الأمثلة
- ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)﴾ (يس) ذاتية وإيجابية.
- ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ (غافر: 28) ذاتية وإيجابية.
وفي الأحاديث:
"ورجل آخذ بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها" ذاتية وإيجابية.
"المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" ذاتية وإيجابية.
وبهذا الميزان تكون حركتنا
والمقصود بها الحركة مع الناس وفي المجتمع، فيعيش الفرد لغيره في حركة دائبة، لا تعرف التوقف، بهذا الميزان نواجه المؤامرات، فالمتربص بالإسلام لا يتوقف عن المؤامرة بحالٍ من الأحوال؛ ولذا فمن الصور العملية للإيجابية، إدراك مخطط التآمر، وعدم الخديعة بأفكارهم الماكرة، وعدم التأثر بما يثيرونه من شبهات، والحذر من دعواتهم الهدامة، والتصدي لهجماتهم بالالتزام بالدين والدفاع عنه.. (وقد حذرنا الأستاذ البنا من الزلل فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره).
وبهذا الميزان نُحذِّر مما يقضي على الذاتية والإيجابية: من الذنوب والمعاصي، وضعف الإرادة، والجهل، والجمود، والانشغال بالدنيا، والانفصام عن واقع الأمة، وهذا كله ما يجتهد الخصوم لتحقيقه، ليتسنى لهم العيش في أمتنا، ونهب ثرواتها، وسرقة مقدراتها في غفلة من أبنائها.
وقد أجمل ذلك الإمام البنا، حينما رسم أن الطريق إلى الذاتية بأربع صفات: "متين الخلق، قوي الجسم، مثقف الفكر، قادرًا على الكسب"، ثم وجهنا إلى التربية الذاتية بثلاث صفات: "سليم العقيدة، صحيح العبادة، مجاهدًا لنفسه"، وبهذا تتحقق الإيجابية بثلاث صفات: "منظمًا في شئونه، حريصًا على وقته، نافعًا لغيره".
فيا أبناء الأمة:
اشحذوا الهمم بذاتيتكم وإيجابيتكم، ووظفوا الطاقات، فالأمة في حاجةٍ إلى كل عطاء مهما كان قليلاً، واعملوا على تذكية الطموح، وادفعوا الناس نحو العمل والبذل، وانتهزوا الفرص.. يقول الإمام علي رضي الله عنه: "الفرصة تمر مر السحاب، فانتهزوا فرص الخير"، واستثمروا الواقع: فهو جزء من التخطيط، يقول الإمام البنا عن صفات صاحب الهمة العالية: "فهو دائم التفكير، عظيم الاهتمام، إذا دُعي أجاب، وإذا نودي لبَّى، لا يبتعد عن الميدان العملي، يجد راحته وأنسه ومتعته في العمل" غايته إرضاء ربه والفوز بالجنة ليكون من "خير الناس أنفسهم للناس".
وأبعدوا السلبية عن الناس، فالإيجابيون يطهرون القلوب من السلبية، ويشجعون مَن يصاحبهم على الإيجابية، وتأمل ماذا يقول السلبيون حينما رددوا ما بأنفسهم في قوله تعالى: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ (الأعراف: من الآية 164)، فسجل القرآن قول الإيجابيين عليهم في قوله تعالى: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الأعراف: من الآية 164).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
القاهرة فى : 13 من جمادى الآخرة 1431هـ الموافق 27 من مايو 2010م