25/05/2010
أ. د/ محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين
إصلاح ذات البين
بسم الله، والصلاة على سيدنا رسول الله،
إخواني وأخواتي وأحبائي في الله، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وحديثٌ جديدٌ من القلب إلى كلِّ القلوب، أسأل الله- عزَّ وجلَّ- أن ينفعني وإياكم به، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أُنبِّه أولاً على أن الحديث السابق كان فيه تنويهًا على أن المشروعات متناهية الصغر سنقدم بعضها كنموذجٍ على موقع (إخوان أون لاين)، وأرجو من كلِّ مَن لديه فكرة جديدة يُضيفها لينفع الناس بها حتى يدخل في باب مَن مدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس أنفعهم للناس"، أدعوه أن يرسلها إلى الموقع، وسيقوم الموقع بنشرها، وتقبَّل الله منا ومنكم.
نبدأ حديثنا اليوم حول إصلاح ذات البين.. قد يرى البعض أن الحديث عن الانتخابات له أهمية، لكني أشعر أن التربية الإيمانية التي نسعى بها بين الناس تسبق كل هذه الأحداث وهذه الوسائل.
فهذه الوسائل أحيانًا ينتج عنها مثل احتكاكات وخلافات وصراعات تُفرِّق العائلات والأُسر وتُمزِّق الروابط، ولكننا سنقدم بإذن الله سبحانه وتعالى من خلال مرشحينا، ومن خلال نشاط إخواننا، ومن القدوة العملية أكثر من الكلام، نُقدِّم حرصنا على إصلاح ذات البين حتى نجمع شمل الأمة بكل متفرقاتها، وبكل اتجاهاتها، وبكل عقائدها، وبكل أفكارها وتجمعاتها حول هدف واحد نحرص فيه على إصلاح ذات البين، وأن تكون مصالحةً جيدةً لا فاسدة ولا مقطعة.
الرسول صلى الله عليه وسلم يُحذِّر ويُنبِّه على أن فساد ذات البين حالقة، لا يقول صلى الله عليه وسلم أنها تحلق الشعر، ولكنها تحلق الدين؛ لذلك عندما ننبه إلى أهمية الصلة بين الناس بعضهم البعض، وبين الأهل والأقارب والجيران والمعارف، نُنبه إلى قضية تجمع شمل الأمة من حيث تجميع الوحدات بعضها ببعض، فذات البين تعني المسافة بين شخصين؛ أي أنا وأنت مشتركان ومتفقان ومسئولان عن هذه الصفة وهذه الصلة.. جزءٌ منها يخصني وجزء منها يخصك؛ لذلك أُذكِّر بما قاله رب العزة سبحانه وتعالى في الحديث القدسي عندما يختلف اثنان أولاً يُنادي رب العزة في الثلث الأخير من الليل بترتيبٍ عجيبٍ: "هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟"، أنظر فأمر الذنوب والتوبة تسبق حاجات الدنيا؛ حيث يقول عز وجل بعدها: "هل من صاحب حاجة فأقضيها له؟"، وهنا هذا الترتيب مهم جدًّا بأن نهتم أيضًا بمطالب الآخرة قبل مطالب الدنيا.
ثم يقول رب العزة: "إلا رجلين بينهما شحناء" يقول رب العزة أخِّرها هذين حتى يتصافيا.. لِمَ لا يقول رب العزة حققوا معهما لتروا أيهما مخطئ فأعاقبه وأيهما صاحب حق فأغفر له، فهذه القضية تعني أن الله عز وجل يؤجل الاثنين حتى يبحث أيٌّ منهما ويبدأ أقربهما إلى الله عز وجل بالسلام وبحسن الصلة ليأخذ هو الأجر.
هذه قضية أساسية بين كل اثنين بينهما شحناء يستطيع صاحب الحق أن يذهب إلى أخيه يسامحه ويتنازل عن حقه ويعفو عمن ظلمه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرني ربي أن أعفو عمَّن ظلمني، وأن أصل مَن قطعني، وأن أعطي مَن حرمني".
حتى مَن كان بينه وبين أهل قرابته صلة فهو يصلهم ويقطعونه، ويعطيهم ويحرمونه، ويتقدم إليهم بالمعروف وهم يتقدمون إليه بالإساءة، وذهب يشكوهم للرسول صلى الله عليه وسلم، هل قال له الرسول صلى الله عليه وسلم توقَّف عما تفعل فهم لا يستحقونه؟!.. لا، وإنما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما زال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك"؛ أي أن هذا الموقف منك يعاونك فيه ويعينك فيه رب العزة ما دمت على ذلك، والله عز وجل مؤيدك وناصرك عليهم فاستمرَّ على ما أنت عليه.
لذلك أحبُّ أن أُنبِّه في عجالةٍ إلى سورة الأنفال؛ لأنها قد حدث بسببها مشكلة بين الصحابة رضوان الله عليهم بعد انتصار بدر- وهُم مَن هُم- وحدثت مشكلة بينهم رضوان الله عليهم قالوا هم عنه بأنفسهم تنازعنا أصحاب بدر حتى ساءت فيها أخلاقنا، فنزلت سورة الأنفال.. ماذا قالت سورة الأنفال؟ أخبرهم رب العزة أن المشكلة التي هم بصددها يسألون عن علاجٍ لها، ما هي يا ربي؟ يسألونك عن الأنفال.. نريد فيها حلاًّ نريد لها علاجًا، المشكلة الحالة خلاف على الأنفال، ما الخلاف؟ أنا أريد أن آخذ حقًّا عند أخي أتصور أنه حقي، وهو لا يريد أن يعطيني هذا الحق، ومن هنا بدأ الخلاف فنزلت سورة الأنفال لتقول ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ﴾.
ويؤجل الرد والعلاج حتى نعالج أصل القضية.. ما أصل القضية؟
هي التي سيأتي علاجها بعد ذلك في كلام الله عزوجل ﴿قُلْ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)﴾ (الأنفال)، يعني الذين يعطون لا الذين يأخذون، واستمرت الآيات تُذكِّر المؤمنين والصحابة المنتصرين في بدر المختلفين على الأنفال بأهم علاج لهذه القضية، وهو رفع منسوب الإيمان في قلوبهم ليرتفعوا عن الصغائر؛ لذلك يقول علماء اللغة عندما يخاطبنا ربنا سبحانه وتعالى "قل تعالوا" يقولون إن هذه الكلمة تعني ليس فقط اقتربوا، بل اقتربوا وارتفعوا من التعالي على الصغائر.. من الارتفاع فوق الدنيا لتقتربوا من ربكم وترتفعوا فوق الصغائر والدنايا والدنيا فتستحقون وتستأهلون أن تنزل أوامر الله عز وجل عليكم وأنتم في هذه الحالة.. قل تعالوا: اقتربوا وارتفعوا.
ظلَّت الآيات تُذكِّر الصحابة- رضوان الله عليهم- بالعلاج الجذري لم تجرِ الحلول وراء الظواهر، ولا العراف، وإنما ذهبت إلى جذر الشجرة لتسقيه بماء الإيمان فامتلأت الشجرة جذرًا وساقًا وفروعًا وأزهارًا وثمارًا وأوراقًا بعصير الإيمان الذي دبَّ فيها، فوصلت الحالة عندما أتمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة ربعين من سورة الأنفال جاء توزيع الأنفال حسب الأوامر الإلهية.. ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ..﴾ (الأنفال: من الآية 41)، وهكذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدم حقوق الأنفال حسب التقسيم إلى الصحابة رضوان الله عليهم، فالذي كان منذ قليل يختلف مع أخيه لأنه يريد أن يأخذ ما قسمه الله تعالى عز وجل أصبح لا يريد لأن نفسه شبعت؛ لأن غِناه في قلبه قد ملأ عليه قلبه، ولم يعد في حاجةٍ إلى غنى يُضاف إلى غنى قلبه فتم بهذا علاج جذري للقضية، وعلى مثل نمط هذا العلاج الجذري يكون العلاج الإيماني لكل المشاكل.
لذلك بفضل الله سبحانه وتعالى تجد الإخوة في الإخوان المسلمين في أغلب أرجاء الجمهورية، كما رأيناهم في القرى وفي النجوع وفي الأحياء وفي العمارات.. عندما تجد لجنة لإصلاح المتخاصمين وفض المنازعات والخلافات لا بد أن تجد فيها أحد الإخوان مشاركًا؛ لأنه يعلم أن هذه الدرجة أعلى من درجة الصيام والصلاة والقيام والصدقة، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أفضل من درجة الصيام والصلاة والقيام والصدقة إصلاح ذات البين، فهي درجات عالية عند الله سبحانه وتعالى أن الله يريد جمع شمل هذه الأمة بل علاج مشاكل هذه الأمة بزيادة منسوب الإيمان فيها؛ لأنه عندما يمتلئ القلب بالإيمان يفيض ليس على نفسه فقط بل على كل مَن حوله نورًا وهدايةً وعونًا؛ لأنه قد شبع وامتلأ وارتوى من القرآن، وفاض على غيره من الناس بما يحتاجون إليه.
لذلك أرجو من كل إخواني خلال هذه الحملات الانتخابية التي يتحركون بها بين الناس- ويبذلون جهدًا أسأل الله عز وجل أن يتقبل منهم- أن يحملوا هذا النور نور الإيمان، نور الإسلام بقيمه وأخلاقه، أهدافنا بعيدة وسامية وراقية، وكذلك وسائلنا بهمم تدفع الإنسان إلى أن يكون هو المنتفع من وراء هذا الأداء؛ لأنه سيكون في درجةٍ أفضل من درجة الصائم والقائم، فهو المنتفع بالصلح بين الناس.. هو المنتفع بحمل النور إلى الناس، طاهر في نفسه ومطهر لغيره، يحمل شمولية الإسلام، لا تدفعه هذه الوسائل إلى أن ينسى قضيته الأولى؛ قضية نشر هذه الدعوة وهذا النور بين الناس، لكي يُعلمهم أن السياسة بأخلاق الإسلام تؤدي على أفضل ما يمكن أن تؤدي، وأن الانتخابات بقيم الإسلام تؤدي على أفضل ما يمكن أن تؤدي، وأن علاقات الناس رغم الخلاف في الرأي، ورغم وجود البرامج المتعارضة لا يفسد للود قضية.
فلنحرص جميعًا على بذل أقصى الجهد لنشر دعوة الله عز وجل، ونشر هذه القيم والمبادئ قبل أن ننشر الدعاية الانتخابية التي هي عبارة عن وسيلةٍ من وسائل تعريف الناس بنماذج من جماعة الإخوان المسلمين.. بالقيم التي تحملها جماعة الإخوان المسلمين.. لهذا عندما نضبط النيات بإخلاصها.. عندما تكون الغايات سامية.. شريفة عالية تكون الوسائل أيضًا سامية غالية شريفة؛ ولهذا أقول لكل مَن يشعر بأن عليه أمانة في هذا البلد اتق الله فيما تصنع، وأكبر الكبائر شهادة الزور، ولفظ شهادة الزور ليس فقط أن تشهد زورًا، ولكن التعبير اللغوي بمعناه الشامل أن تحضر الزور أن تشهد الزور؛ أي أن تكون حاضرًا في مجلس زور ليس فقط أن تشهد أنت شهادة زور كاذبة أو أن تُزوِّر في صوتٍ لإنسان لم يقل لك هذا المعنى وهذا الكلام وهذا الاختيار فأنت محاسب على ما تُسطِّره يداك، وما ينطقه لسانك وشفتاك؛ ولذلك أقول ليس فقط لإخواننا، ولكن لكل المرشحين ومَن معهم أقول لكل اللجان.. احذر أن تشهد زورًا بشهادتك أنت أو حضورك على زور وبهتان فشهادة الزور من أكبر الكبائر ..."ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور ألا وشهادة الزور".. حتى قال الصحابة رضوان الله عليهم "ليته سكت" صلى الله عليه وسلم من كثرةِ ما خوَّفهم من ترديد هذا التحذير، ولهذا قرن الله عز وجل شهادة الزور بالشرك بالله سبحانه وتعالى تحذيرًا وتنبيهًا على خطورة هذا الأمر، وعلى أهميته.
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يشهدون بالحق، ويقيمون الحق، ويحرصون على الحق، وينصرون وينشرون نور الإسلام ونور الدعوة ونور قيم أخلاق الإسلام بين الناس؛ لينتفعوا بها ويعيشوا في ظلها، ولينعموا بحريتها وقيمها وأخلاقها، فهو بفضل الله سبحانه وتعالى خلق كريم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق التي جاء بها كل إخوانه الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، وهو خاتمهم صلى الله عليه وسلم، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــ
المرشد العام للإخوان المسلمين