06/05/2010
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد؛
فإن أمتَنا الإسلاميةَ مهما ضعُفتْ وتفرقتْ فإنَّ مجموعَها العامَ يظلُّ وفيًّا لدينه ووطنه، رافضًا للمساومة على عزته وكرامته، ومستعصيا على كل محاولات التقطيع والتفريق، على حد وصف الله تعالى لخير أمة ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح:29) وقوله تعالى في وصف الذين يحبهم ويحبونه ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ (المائدة:54)
وهذا المزج بين الشدة واللين، وبين العزة والذلة في الشخصية المسلمة يكشف عن التوازن الرائع، فلا الشدة في كل مقام محمودة، ولا الرحمة، بل المحمود أن يكون الإنسانُ شديداً في موضع الشدة، ليناً في موضع اللين، عزيزاً أبِيًّا حين يقف أمام أعدائه والمتربصين بأمته، فينظر إليهم نظرة العزيز الغالب؛ لا نظرة الضعيف الخانع، ذليلا متواضعا خفيض الجناح حين يتعلق الأمر بإخوانه وبني جلدته، يفيض قلبُه حُنُوًّا وشفقةً عليهم. وبذلك يحقق توجيه النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (مسلم)
أعداؤنا هم من يعتدون علينا:
إن المسلم مطالب بالإحسان لجميع الناس ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ (البقرة:83). وهذا يعم جميع الناس، مسلمهم وكافرهم، باستثناء الكفار المحاربين للأمة والمعتدين عليها وعلى مقدساتها وحرماتها، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ (التوبة: 123) ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (البقرة:190) وكذلك من أجل رفع الظلم عن غيرنا ممن يستنجدون بنا ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ (النساء:75)
أما غير المحاربين لنا والذين لم يعادونا ولم يقاتلونا فإن الله تعالى يقول: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ (الممتحنة: 8). والبر المأمور به في الآية يشمل كل أنواع البر.
وقد تواترت الأخبار من تاريخ هذه الأمة الكريمة عن الإحسان إلى غير المسلمين وخصوصا مواطنينا وجيراننا وشركاءنا من النصارى، حيث اختلطت دماؤنا بدمائهم في الدفاع عن الوطن، وامتزج عرقنا بعرقهم في بناء نهضته وحضارته.
اختلال الميزان وتراجع الأمة:
لقد أهمل كثير من أبناء أمتنا هذه الثوابت الإسلامية والإنسانية الواضحة، فصاروا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، أشبه بما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج الذين: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ» (الشيخان).وهذا مما شجع الصهاينة وغيرهم على استباحة بلادنا ومقدساتنا.
لهذا ترى اليوم دماءنا تُراق رخيصةً بلا ثمن، وديارنا تُهدم بلا ثمن، وأرواحنا تُزهق على وهن ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ (الشورى:30). فالذل والهوان الذي تعيشه أمتنا هو بما كسبناه نحن بأيدينا، وفعلناه بأنفسنا، وإذا ما رجعنا إلى ديننا وثوابتنا، وحرصنا على كرامتنا فسيعود لنا مجدنا وعزتنا، على حد قول الفاروق: «إنَّا قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَنْ نَلْتَمِسَ الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ» (الحاكم).
العفو عن العدو والشدة مع الإخوان:
يستبد بالعقلاء في أمتنا العجب، وهم يرون بعض الحكومات تحرص في برود عجيب على الصفح والعفو عن كل الجرائم التي يرتكبها صهاينة ضدنا وفي عمق بلادنا، ويسرعون بتسليم أي مجرم صهيوني إلى الإدارة الصهيونية معززا مكرما، حتى من دون طلب محاكمة، بل وممارسة أقصى (وأقسى) درجات ضبط النفس مع الاعتداءات الصهيونية المتكررة، بدعوى تشجيع عملية السلام التي تطلق الإدارة الصهيونية عليها يوميا عشرات القذائف القاتلة في استهتار عجيب بحكوماتنا وشعوبنا، بل بكل القوانين والمواثيق الدولية.
ويشتد العجب حين ترى نفس هذه الحكومات اللطيفة جدا مع العدو لا تتوقف عن إظهار القسوة بشكل مستمر ومستفز على شعوبها وبني أوطانها، فتفرض الطوارئ وتصادر الحريات وتعتقل الشرفاء وتلفق القضايا للوطنيين المصلحين، وتقيم المحاكم العسكرية والاستثنائية، وتستصدر الأحكام القاسية على كل من يساعد أو يحاول أن يساعد المجاهدين والمقاومين، وكان من أواخر ذلك تلك الأحكام القاسية المفاجئة ضد المجموعة التي كانت تحاول تقديم الدعم اللوجيستي للمقاومين في غزة، ولئن كانت تلك المجموعة قد أخطأت بالتعدي على سيادة الدولة المصرية، فقد كان مما يشفع للتخفيف عنها حسنُ نيتها ورغبتها الصادقة في مساعدة إخواننا في غزة، لا سيما وأنها لم تمارس أي عمل من أعمال الاعتداء على مصر. لهذا كان من العجيب أن يتضخم الحديث عن السيادة الوطنية (التي نحرص عليها كل الحرص) في الوقت الذي تغيب فيه تلك المصطلحات تماما حين يكون المعتدي صهيونيا ويمارس أدوارا مشبوهة ضد مصر، خصوصا وقد ضبط معهم السلاح فعلا.
دعوة إلى العفو عن كل المظلومين:
لهذا فإننا -مثلما دعونا دولا عربية كالسعودية واليمن وليبيا للإفراج عن بعض المصريين الذين صدرت ضدهم أحكام في تلك الدول- ندعو الرئيس مبارك إلى عدم التصديق على تلك الأحكام القاسية، كما ندعوه لاستخدام صلاحياته الدستورية في العفو عنهم، وفي الإفراج عن كل المحبوسين السياسيين ظلما، بما في ذلك ضحايا المحاكم العسكرية غير الطبيعية.
إن العفو الواجب الذي يحبه الله والذي ندعو إليه هو الذي فيه إصلاح لأحوال الوطن والمواطنين ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ (الشورى:40) أي: من كان عفوه مشتملاً على الإصلاح فهو المستحق للأجر من الله.
أما من كان عفوه إفساداً لا إصلاحاً، بأن يعفو عن الصهاينة الذين اغتصبوا بلادنا وقتلوا وشردوا إخواننا؛ فإنه آثم بهذا العفو في حق وطنه ونفسه ودينه.
إننا نسأل العقلاء في أمتنا: هل العفو عن الصهاينة الذين يناصبوننا العداء، ويتجرؤون على انتهاك مقدساتنا واغتصاب بلادنا وإهانة رموزنا بمن فيهم القضاة رموز العدالة في الأمة، يعد إفسادا أم إصلاحا؟
وفي المقابل نسأل العقلاء أيضا: هل أَخْذُ ذوينا وبني ديننا وجلدتنا بالظن والتهمة وبلا بينة، وحرمانهم من المثول أمام قاضيهم الطبيعي وتقديمهم للمحاكم الاستثنائية والمحاكم العسكرية، واستصدار أحكام قاسية بحقهم غير قابلة للطعن، هل ذلك يحقق الإصلاح أم الإفساد؟
قد يتفهم البعض أن نكف أيدينا مؤقتا عن أعداء أمتنا حتى نتهيأ لمواجهتهم، لكن في أي سياق يمكن أن نتفهم هذه الشدة المفرطة مع إخواننا وبني جلدتنا، في الوقت الذي نظهر فيه لينا مفرطا في التعامل مع أعداء الأمة والمحاربين لها.
إنه لن يحفظ لنا هيبتنا، ولن يعيد لنا مكانتنا إلا أن نضع الأمور مواضعها:
حَلِيمٌ إِذَا مَا الحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَه مَعَ الحِلْمِ في عَيْنِ العَدُوِّ مَهِيبُ
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة فى : 22 جمادى الأولى 1431هـ الموافق 6 مايو 2010م