02/04/2009
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله؛ سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
بينما يستقوي الظالمون بكل أنواع القوى ويعتمدوا اعتمادًا كاملاً على ما لديهم من أدواتٍ هي من صنعهم؛ فإن أمتنا، أفرادًا وجماعات.. حكوماتٍ وشعوبًا، على كافة الصعُد وكل المجالات، بحاجة ماسَّة إلى أن تلجأ إلى أعظم القوى وأشدِّ الأركان.. إنها قوة الله.. إنه ركن الله؛ الذي تمثله عبادة الله والتوكل عليه؛ يقينًا وعملاً وسلوكًا.. ( ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه (هود).. واقعًا ملموسًا؛ بعيدًا عن الشعارات الجوفاء والخطب الرنانة، فنحن في أشد الحاجة إلى معايشة القرآن الكريم وفهم معانيه وتحقيق واجباته التي فيها النجاة والفوز.
ولقد عُنِي القرآن الكريم بأمر التوكل مقرونًا بالعبادة في أكثر من آية ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً ) (المزمل: 9)، ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا ) (الملك: من الآية29)، ( الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) (التغابن:13) ( وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) (هود: من الآية88) ( إياك نعبد وإياك نستعين ) (الفاتحة:5) ( ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه (هود: من الآية123)..
فالعبادة والتوكل شطرا الدين الذي ارتضاه الله لنا.
فهذه الآيات تصور منطق الإيمان الصحيح كما نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالته وكل قائم بدعوته، وهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل من في الأرض من قُوىً مضادة، وفي ذات الوقت تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن، بعد وزن هذه القُوى بميزانها الصحيح.
نظرات في العبودية
لقد كانت وما زالت عبادة الله هي تكليف للناس.. ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ) (البقرة: من الآية21) ، ولم لا وهي غاية وجودهم، ومن أجلها خلقهم؟ قال سبحانه ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، والعبادة لا تعني فقط القيام بظاهر الدين دون الحياة في جوهره والعيش في كنفه؛ فهي تتسع لتشمل كل عمل صغير أو كبير يُقصد به وجه الله تعالى، وبالتالي فإن كل ما يحب ربنا ويرضى قولاً وفعلاً وشعورًا ونيةً هو نطاق العبادة في أسمى صورها، وعليه فكل عادة يمكن أن تتحول إلى عبادة، ما كانت خالصةً لله ووفق الشرع.
والهدف الأسمى للمنهج الإسلامي بكل فروعه:نظام الحكم, ونظام الاقتصاد, والتشريعات الجنائية, والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة، وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج.. هو تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان.
فليس هناك أشرف نزلاً ولا أرفع قدرًا ولا أكرم مكانةً من أن نكون عبادًا لله كما يحب ويرضى، فالتذلل بين يدي الله منتهى العز، والخضوع أمام سلطانه قمة العظمة، والخوف من قهره وانتقامه منبع الأمن، والبكاء من خشيته مبعث الرجولة، وذلك كله لا يكون إلا لله، فهو وحده المستحق للعبادة بلا منازع أو شريك، قال تعالى ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )
إن حياتنا كلها بما فيها ومن فيها ينبغي أن توجَّه إلى الله الواحد القهار، ولا نخطو خطوة ولا نعمل عملاً إلا والله تعالى أمامنا، وهو ما قام عليه الجيل الفريد في العهد الأول من هذه الرسالة الخالدة وضرب به أروع الأمثلة العملية في العبودية..
عبودية.. تورث عزًّا لا ذل فيه، واستعلاءً لا تكبُّر معه، يكون شعارها "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام"، ومدادها "لقد ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله"..
عبودية .. تصنع أسسًا لحكم قوامه العدل والمساواة والشورى واحترام الحقوق وأداء الواجبات يتحقق فيها قول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه "لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فيها إن لم نسمعها"..
عبودية.. تولد المسؤولية الفردية والجماعية عند الراعي والرعية على حد سواء، لا تفاخر فيها ولا بغي ولا حقد ولا حسد تتجسد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
عبودية.. ترتكز على التربية ومنظومة القيم الإيمانية والأخلاقية كأساس للتغيير والإصلاح وإرشاد الناس ومواجهة التحديات والأخطار التي تواجه الأمة وتنمي الإرادة الذاتية للشعوب في التغيير.
إن الأمة إن حققت صحة العبادة، بمدلولها الواسع ومفهومها الشامل وكان الله غايتها ومنتهاها فيما تقصد، لرحلت عن قلوبنا الدنيا وحل محلها حب الله وما أعده لنا، وعندها يتجلى المعنى الحقيقي للحياة، عندها سوف يتغير المشهد العالمي كله، فيعز الإسلام ويسود العالمين، ولن يفلح معنا مكر الصهاينة ولا غطرسة الأمريكان ولا ممالأة المنافقين ولا عمالة العملاء، وعندها ستشهد الدنيا بنور الإسلام
( أليس الله بكاف عبده )
إذا ركنَّا إلى مقام العبودية لله حقًّا، وقمنا بحق هذا المقام وصار المرء عبدًا لله فمن ذا الذي يحفظه ويكلؤه ويمنعه غير الله، ومن ذا الذي يكفيه غير الله؟ ( أليس الله بكاف عبده ) بلى، فمن ذا يخيفه؟! وماذا يخيفه إذا كان الله معه؟! ولم لا نتوكل على مولانا وهو هادينا سبلنا ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ) بل إننا نصبر على فتن الدنيا وإيذاء الظالمين لأن ملجأنا إلى الله ورجاءنا فيه وتوكلنا عليه ( و لنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) (إبراهيم: 12).
إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب المؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه، وقد انقطع الجدل وانقطع الخوف على النفس أو الرزق ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ) (الطلاق: من الآية2-3).. وانقطع الأمل إلا في جناب الله سبحانه.. فهو كافٍ عبده، والعبد الصادق لا يتوكل إلا عليه وحده: ( قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون ).
كما أن كل عبد مضطرٌ إليه تعالى، لا يستغني عنه طرفة عين ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ) ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ).. فمن يتوكل على الله فهو كافيه ومؤيدُه وناصرُه، ومن توكَّل على غيره فإنما يتوكل على من يموت ويفنى، والضعف والعجز يعتوِرُه من كل جهة، وضل سعيه وخاب رجاؤه.
حقيقة التوكيل
وفي السنة المطهرة يقول صلى الله عليه وسلم "لو أنكم توكَّلون على اللّه حق توكله، لَرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصاً، وتعود بِطاناً". وهنا تنبيه إلى أن التوكل الصحيح يستلزم من صاحبه أن يُعْمِلَ الأسباب كما قال سبحانه وتعالى: ( واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) فجعل سبحانه التوكل مع التقوى، وهي هنا شاملة للقيام بالأسباب المأمور بها، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ محض، وإن كان مشوبًا بنوع من التوكل، فلا ينبغي علينا أن نجعل التوكل عجزاً ولا العجز توكلاً، بل نجعل التوكل متمم لجملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها.
من المعلوم أن الأسباب قد تنخرق للمتوكلين على الله، فالنار صارت بردًا وسلامًا على إبراهيم، والبحر الذي هو مكمن الخوف صار سبب نجاة موسى ومن آمن معه، ولكن لا يصح ترك الأخذ بالأسباب بزعم التوكل، كما لا ينبغي التعويل على الحول والطول أو الركون إلى الأسباب، فخالق الأسباب قادر على تعطليها.
إن الإسلام ينشد من أتباعه توكلا يفجر الطاقات الإيجابية في النفس البشرية فتحلق به في سماء العزة والكرامة
توكل.. يأخذ بالأسباب ويشحذ الهمم
توكل.. يربط الأسباب بمسببها ويعتمد على الله و ويلتجئ إليه
توكل .. يقود البشر صوب التوازن المحمود والمنشود بين المادة والروح
توكل .. يقربنا من الله ويرضيه عنا
توكل .. يكون من عوامل النصر والتمكين
توكل ..لا يورث التواكل.
فلو عبدت الأمة الله حق العبادة وتوكلت عليه حق التوكل لتغير حالها ولتقدمت الأمم وقادتها لما فيه صلاحها ، ولما سيطر عليها أخس خلق الله إخوان القردة والخنازير وأعوانهم وأذنابهم ولما وفرضوا عليها وصايتهم ولما احتلت الأرض وانتهكت الحرمات ولما وصل الأمر لحد استصدار قرار باعتقال رئيس عربي مسلم. إن ما تعانيه الأمة اليوم هو هزيمة نفسية روحية قبل أن تكون مادية؛ لذا فنحن في حاجة للعودة الجادة إلى الله ومنهجه.
يا أمتنا : ... على الله فليتوكل المؤمنون
لنجعل من هذه الآية منهج لحياتنا ودعوتنا وحركتنا بين الناس ولنجعلها شعارا لتحركنا بل لحياتنا كلها، ولنحضر أن نكون من معوقات النصر بعدم اتباعنا لهذا المنهج القويم، ولنحيا في معية الله ولنحرص على حسن عبادته ومراقبته في كل حركة وسكنة وعلى حسن الصلة به فإنه وحده ناصرنا ومعيننا
والله أكبر ولله الحمد
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
القاهرة فى : 6 من ربيع الآخر 1430هـ
2 من إبريـــل 2009م