د. محمود غزلان

بمناسبة مرور سبعة وثمانين عاما على تأسيس الجماعة
دعوتنا باقية وثورتنا مستمرة

مشروع الإخوان المسلمين الوَسَطِي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فالإسلام هو دين الفطرة وصوت الضمير الإنساني، لذلك كان أكثر الأديان جذبا للبشر ، رغم العداوات والتشويه والتعويق.
وجماعة الإخوان المسلمين تحمل الإسلام بوسطيته، وتمثل الاعتدال الأمثل بين المذاهب الإسلامية، فهي أكبر الجماعات الإسلامية وأكثرها انتشارا في العالم، كما أنها تتميز بالانفتاح والاستنارة التي تجعل مشروعها الذي تسعى لتطبيقه يمثل تقدما حضاريا ينافس، بل يتفوق على الحضارة الغربية.
لذلك استهدفها أعداء الإسلام منذ اشتد عودها، فقد حاربها الإستعمار الصليبي والصهيوني وأذنابهما من الحكام والمفكرين والسياسيين العلمانيين، وسعوا إلى استئصالها من الوجود ماديا واغتيالها معنويا، ومن ثم تعرضت لمحن شديدة على مدى السبع وثمانين سنة التي عاشتها، ولكنها بفضل الله كانت تخرج من كل محنة أقوى وأكثر نصيرا وأوسع انتشارا.
ومرجع ذلك أنها اعتنقت الإسلام الصحيح، وتمسكت بمبادئه، وانتهجت منهجه، متأسية برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه تمثل ثوابت الإسلام الذي تكفل الله بحفظه.
ثوابت الإخوان المسلمين:
كما أنها وضعت لنفسها جملة من الثوابت استلهمتها من فهمها للإسلام وألزمت نفسها بها، وبذلك حفظت دعوة الإخوان في إطار صلب بعيدا عن التفكك والإنحراف. ومن آمن بدعوة الإخوان فلا بد أن يلتزم بثوابت الإسلام العامة، وأن يزيد على ذلك الالتزام بثوابت الإخوان، ولا يجوز له أن ينكرها أو يخرج عليها.
من هذه الثوابت : ضرورة العمل الجماعي، التربية منهجنا في التغيير ، السلمية ونبذ العنف سبيلنا، الالتزام بالشورى ورفض الاستبداد والفردية سواء داخل الجماعة أو خارجها، رفض تكفير المسلمين.
وليس الناس على شاكلة واحدة، فمنهم من يؤمن بهذه الثوابت في الرخاء ويظل يدعو إليها ويثني عليها، حتى إذا وقع في محنة أو أصابته مصيبة كبيرة راح ينفلت من إحدى تلك الثوابت أو بعضها أو منها كلها، ظانا أنها هي سبب المحنة، وأنه بتخليه عن هذا الثابت أو ذاك سيخرج منها سريعا، في حين أن التمسك بالمبادئ والصبر عليها هو في حد ذاته نصر من الله يقود إلى النصر الحاسم بإذن الله، ولو تأخر عن استعجال البشر.
الإخوان يرفضون التكفير:
من ذلك الموقف من قضية التكفير الذي يرفضه الإخوان رفضا قاطعا، فقد كان التعذيب شديدا في سجون عبدالناصر ، مما دفع بعض الشباب إلى تكفير من يعذبونهم، إلا أن كبار الإخوان وعلى رأسهم فضيلة المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله رفضوا هذا الفكر، وكتب فضيلته كتاب (دعاة لا قضاة)، وخَيَّر من يقولون بالتكفير بين الرجوع عنه أو الخروج من الجماعة، وبالفعل قام بفصل من أصر على ذلك من الجماعة، وكان يقول: إن هذا الفكر أشد خطورة على الدعوة من التعذيب والسياط.
الشعب يمنح ثقته لمشروع الإخوان:
والآن وبعد أن عايش عدد من الشعوب العربية جماعة الإخوان المسلمين وعرفوا حقيقتها فإنهم منحوها ثقتهم في صناديق الاقتراع بإرادتهم الحرة المستقلة، بل اختاروا لهم في مصر رئيسا من هذه الجماعة، وعندئذ تآمر الكارهون للإسلام ولحرية الشعوب من ساسة الغرب الصليبي مع الصهاينة مع بعض الحكومات العربية التابعة للغرب والخائفة على عروشها من نموذج إسلامي حضاري تقدمي مع أرباب الفساد والاستبداد والديكتاتورية من سائر الأطياف السياسية والإعلامية والإدارية في الداخل، وقام قادة الجيش الموالون للغرب والصهاينة بانقلاب عسكري دموي، أطاح بالتجربة الديمقراطية الوليدة وبأول رئيس مدني منتخب في انتخابات حرة نزيهة.
الإخوان يلتزمون السلمية ويرفضون الانجرار للعنف:
خرج الشعب المصري الحر الثائر -وفي قلبه الإخوان المسلمون- يتظاهرون سلميا ويعتصمون في الميادين؛ احتجاجا على هذا الانقلاب الخائن، فقابلهم الانقلابيون بمذابح وحشية دموية لم تعرفها مصر من قبل، فقتلوا وحرقوا عدة آلاف، واعتقلوا عشرات الآلاف، وزعموا عبر إعلامهم الكذوب أنهم يواجهون ويقتلون إرهابيين، مع أن العالم كله شاهد المتظاهرين والمعتصمين على فضائيات الإعلام سلميين، صدورهم عارية، وأيديهم فارغة، يحتجون بحناجرهم وهتافاتهم ضد الانقلاب وضد القتل.
انطلق الانقلابيون الفاشيون في سفك دماء الأبرياء، وانطلقت أذرعهم الاعلامية تلصق تهمة الإرهاب بالإخوان المسلمين، وفي ذات الوقت يصعدون بطشهم بالمدنيين السلميين لدفعهم للجوء إلى العنف، إلا أن الثوار السلميين التزموا سلميتهم وفوتوا على الانقلابيين الدمويين خطتهم الخبيثة، فراحت أجهزة المخابرات الانقلابية تفجر وتقتل، ثم تنسب أعمالها الإجرامية إلى الإخوان المسلمين، حتى لو أعلنت منظمات أخرى تتبنى العنف أنها هي التي قامت بها، ومن ذلك ادعاء الانقلابيين أن الإخوان هم الذين فجروا مديرية أمن الدقهلية وذلك بعد وقوعه بربع ساعة ودون أي تحقيق، ورغم إعلان ما تسمى أنصار بيت المقدس قيامها بالتفجير، وأعلن الانقلابيون أن الإخوان جماعة إرهابية، وسرعان ما تابعتهم بعض دول الخليج الداعمة لانقلابهم الدموي، وراحوا ينشرون ذلك في العالم ويضغطون على الدول الغربية لوضع الإخوان على قائمة الإرهاب مستخدمين التهديد بإلغاء صفقات تجارية بمبالغ ضخمة إن لم يرضخ الغرب، ولكنهم امتنعوا عن ذلك حتى الآن.
السلمية والقبض على الجمر:
والذي نريد أن نؤكده هنا أن السلمية ونبذ العنف من ثوابتنا التي لن نحيد عنها أو نفرط فيها، وهي الخيار الأصعب لكنه الأوفق بإذن الله، وأنها كانت أحد أسباب بقائنا وقوتنا طيلة ما يقرب من تسعين عاما، وكانت من أسباب التفاف الناس حول دعوتنا وتعاطفهم معنا وتأييدنا في خمسة انتخابات عامة في مصر على مدى سنتين، وأنها تمهد لنا طريق المستقبل الناجح بإذن الله، رغم حلكة الظروف وقسوة الواقع ودناءة المؤامرة، وندرك يقينا أن تمسكنا بها قبض على الجمر، ولكننا ننظر لمصلحة الوطن والأمة، ونجاهد لتفويت الفرصة على الانقلاب الدموي الخؤون الذي يسعى بكل ما أوتي من قوة وإعلام لجر الثوار إلى العنف وإشعال حرب أهلية، وهو ما لن يتمكنوا من تحقيقه بإذن الله، والله من ورائهم محيط.
تاريخنا المشرق خير شاهد على سلميتنا:
فقد تعرضت الجماعة لمحن كثيرة عبر تاريخها الطويل، وخرجت بعدها بحمد الله قوية فتية.
•    فذات مرة تململ بعض الشباب المتعجلين من منهج التربية المتدرج في الخطوات وأرادوا استخدام العنف في إزالة المنكر، فأبى عليهم الإمام المؤسس، فانشقوا وكونوا جماعة شباب سيدنا محمد، ثم فتر الحماس وذابوا في المجتمع وانتهت قضيتهم.
•    وفي عام 1949 اعتقلت الحكومة المصرية الإخوان المسلمين، وحلت جماعتهم، واستولت على مقراتهم وأموالهم، وتركت مرشدهم الإمام البنا تمهيدا لاغتياله، وعندما سأله أحدهم أن يستخدم العنف في مواجهة السلطات، وكان يستطيع عن طريق النظام الخاص المدرب لمواجهة الاحتلال البريطاني والمنظمات الصهيونية، فرفض وقال: لن آمر بمنكر أو أدعو إلى فتنة، وعندما اغتال أحد المتحمسين الغاضبين النقراشي حزن الإمام بشدة واستنكر، وأصدر بيانا بعنوان (ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين).
•    وفي عام 1951 ألغى القضاء قرار حل الجماعة فتهافت المصريون على الانضمام إليها بشكل يفوق التصور .
•    وفي عام 1954 شن عبدالناصر على الإخوان حربا استئصالية فتحملوا محنة القتل والسجن والتعذيب والإفقار والافتراء بصبر الرجال ولم يلجأوا إلى عنف أو إرهاب.
•    وفي عام 1965 اقترح اسماعيل الفيومي وكان حارسا شخصيا لعبد الناصر أن يغتاله، فرفض الأستاذ سيد قطب رحمه الله وقال: إن اغتيال عبدالناصر هدف تافه، وإن دورنا أن نربي الأمة التي لا تخرج أمثال عبدالناصر مرة أخرى.
•    ولقد كتب الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله المرشد الثالث في مقال له بعنوان (نحن بحمد الله في خير حال) تحت عنوان فرعي (لا نقر القتل): إن قتل ظالم لا يذهب الظلم، ولكن تهيئة الرأي العام وتربية النشء والشباب وطول النفس هو الذي يذهب بالظلم والظالم إلى الأبد، رغم أن السادات اعتقله في أخر أيامه وكان طاعنا في السن.
•    منذ السبعينيات وحتى الأن والإخوان يتعرضون لبطش السلطة إرضاء للغرب وادعاء بمكافحة الإرهاب، حتى أُدْخِل عشرات الآلاف منهم السجون، وتعرضوا للتعذيب والمحاكمات العسكرية الظالمة ومصادرة الأموال، ولم يقترفوا عملية عنف واحدة، بل صبروا واحتسبوا، وهذا ما زكى ثقة الشعب بهم، ودفعه لانتخابهم في اتحادات الطلاب والنقابات ونوادي أعضاء هيئات التدريس والبرلمان ورئاسة الدولة فيما بعد.
•    كما أن موقف المرشد العام الحالي البطل الصابر الدكتور محمد بديع واضح غاية الوضوح، فهو الذي أكد أن ثورتنا سلمية، وستظل سلمية، وأن سلميتنا أقوى من الرصاص ، ورغم استشهاد ابنه الأكبر في مظاهرة رمسيس ورغم ما حاق به شخصيا من ظلم تنهد له الجبال، إلا أنه ظل ثابتا متمسكابمبدإالسلمية
الإخوان يرجون رضوان الله ويبغون مصلحة الوطن:
ولئن حاول الإعلام المضلل والإرهاب الحكومي تشويه هذه المسيرة الوضيئة وزعزعة هذه الثقة الشعبية في الإخوان؛ فسوف يزول ذلك كله يوم يسقط الانقلاب بإذن الله. كما أن الإخوان المسلمين لا يقبلون أن تتحول مصر إلى أطلال وخرائب كما هو حادث الآن في بلدان أخرى.
كما أن الإخوان المسلمين يعتبرون بتجارب الأخرين في العالم التي تؤكد أن سلمية الشعوب أقوى من السلاح، وأن العنف سبب الهزيمة والزوال، وأمامنا تجربة الجزائر في التسعينيات، وتجربة مدينة حماة في سوريا، وتجربة أيلول الأسود في الأردن، وكلها تجارب تثبت فشل استخدام العنف.
كا أن أمامنا تجربة الثورات الشعبية السلمية في السودان ضد الفريق إبراهيم عبود، وفي إيران ضد الشاه، وفي تشيكوسلوفاكيا ضد شاوشيسكو، وكلها أطاحت بالطغاة، نعم كانت التكلفة كبيرة ولكن لا بد منها.
وقبل هذا كله وبعده فإن الإخوان يعملون لله ويرجون وجهه الكريم، ويثقون بأن النصر من عنده وحده، ويبذلون وينتظرون منه النصر أو الأجر، ومن ثم يلتزمون بشرعه ويمتثلون لأحكامه، وعلى رأسها حرمة النفس والدم وأن القتل من أكبر الكبائر وأن قتل نفس بغير حق تعدل قتل الناس جميعا .
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾، ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، وقال رَسُولُ اللَّـهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ»، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا».
ومن ثم لا يمكن أن يتورطوا في إراقة دم أو إزهاق روح بريئة، ومن ينسب إليهم شيئا من ذلك فقد افترى إثما عظيما.
الثورة مستمرة حتى النصر بإذن الله:
ورغم أن العدوان الإرهابي الدموي الذي يمارسه الانقلابيون الفاشيون قد يدفع بعض الشباب للكفر بالديمقراطية والتطلع لرد العنف بمثله، إلا أن الإخوان ومعهم غالبية الشعب سيصبرون على منهجهم السلمي، ويستمرون في ثورتهم ، ويبدعون في وسائلهم لإسقاط الانقلاب، ويدعون كل قوى الثورة وشبابها الأحرار الصامدين إلى التعاون والإصرار على السعي للإسراع بإسقاطه، والتوحد على رؤية وطنية واضحة لمستقبل مصر الحرة التي تتسع لجميع أبنائها دون استثناء أو إقصاء بإذن الله.
وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
والله أكبر ولله الحمد.