في قرار جديد يكشف عشوائية حكومة الانقلاب وانفصالها الكامل عن واقع المصريين، بدأت محافظة القاهرة حملة واسعة لإغلاق وتشميع معارض السيارات في مدينة نصر وشارع الطيران، بحجة "تحقيق الشكل الحضاري للعاصمة والالتزام بتطبيق القانون". القرار الذي جاء فجأة دون أي فترة انتقالية أو توفير بدائل، يهدد استثمارات بمليارات الجنيهات ومصادر رزق آلاف الأسر، في نفس الوقت الذي تعجز فيه الحكومة عن توفير أبسط الخدمات للمواطنين أو حل أزمات حقيقية كالغلاء والبطالة.

 

رابطة تجار السيارات حذرت من "تداعيات القرارات الأخيرة على القطاع التجاري والصناعي"، مؤكدة أن غلق المعارض بشكل مفاجئ يهدد سلاسل التوريد وتوطين صناعة السيارات وحصص التوكيلات، إلى جانب تهديد مصادر دخل العاملين في هذا القطاع. لكن يبدو أن حكومة العسكر، المشغولة بمشاريعها الفرعونية وقصورها الرئاسية، لا تكترث لمصير هؤلاء البسطاء الذين سيجدون أنفسهم في الشارع بلا مصدر رزق.

 

"الشكل الحضاري" بديلاً عن الخبز: أولويات حكومة منفصلة عن الواقع

 

وزيرة التنمية المحلية منال عوض ومحافظ القاهرة إبراهيم صابر يتحدثان عن "الشكل الحضاري للعاصمة" و"تطبيق القانون"، في الوقت الذي يعاني فيه المصريون من غلاء فاحش وانهيار في القدرة الشرائية وأزمة "فكة" تجبر الحكومة على زيادة أسعار المترو 25%. الأولوية عند هذه الحكومة ليست توفير لقمة العيش للمواطنين، بل "الشكل الحضاري" الذي يُرضي عين الديكتاتور ويُخفي عن زواره الأجانب حقيقة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.

 

الحجة التي تسوقها الوزيرة هي أن شارع الطيران "يضم كثافة من معارض السيارات داخل عقارات سكنية، إلى جانب انتشار السلاسل والحواجز الحديدية واحتلال الأرصفة، ما تسبب في شكاوى متكررة من السكان ومشكلات مرورية". حتى لو كانت هذه الحجة صحيحة، فإن الحل الطبيعي في أي دولة محترمة هو منح فترة انتقالية معقولة، وتوفير بدائل مناسبة، والتنسيق مع أصحاب المعارض لتنظيم الوضع بما يحافظ على حقوق الجميع. لكن حكومة الانقلاب لا تعرف إلا لغة القمع والإغلاق والتشميع، تماماً كما تفعل مع المعارضين السياسيين.

 

المفارقة المضحكة المبكية أن الوزيرة تتحدث عن "احتلال الأرصفة" من قبل معارض السيارات، بينما الجيش يحتل الاقتصاد بأكمله من الأسمنت إلى المكرونة، ولا أحد يجرؤ على الكلام. الأرصفة التي تشغلها معارض السيارات "جريمة" تستحق الإغلاق الفوري، لكن الشركات العسكرية التي تحتكر السوق وتدمر القطاع الخاص "استثمار وطني" يجب حمايته!

 

300 معرض "غير مرخص": ضحايا بيروقراطية قاتلة وفساد ممنهج

 

تعهدت الوزيرة بأنه "لن يتم المساس بالمعارض المرخصة"، مشيرة إلى وجود نحو 120 معرضاً مرخصاً في مدينة نصر، في مقابل أكثر من 300 معرض "غير مرخص". هذا الرقم المذهل يطرح سؤالاً بديهياً: كيف وصل عدد المعارض "غير المرخصة" إلى أكثر من ضعف عدد المرخصة؟ ولماذا سمحت الحكومة والمحافظة بهذا الوضع لسنوات، ثم قررت فجأة إغلاقها جميعاً دفعة واحدة؟

 

الإجابة واضحة لكل من يعرف كيف تعمل البيروقراطية المصرية: الحصول على ترخيص معرض سيارات يتطلب سنوات من المعاملات الورقية، وعشرات الموافقات من جهات مختلفة، ورشاوى لا تنتهي لموظفين فاسدين. كثير من أصحاب المعارض بدأوا عملهم بتصاريح مؤقتة أو موافقات شفهية من مسؤولين، ثم وجدوا أنفسهم عالقين في دوامة بيروقراطية لا تنتهي. والآن، بدلاً من تسهيل إجراءات التقنين ومنحهم فرصة لتوفيق أوضاعهم، تقرر الحكومة إغلاقهم جميعاً وتدمير استثماراتهم ورزق عمالهم.

 

رئيس رابطة تجار السيارات أسامة أبو المجد طالب بـ"ضرورة إقرار فترة انتقالية لتوفيق الأوضاع، مع توفير بدائل وأراضي مناسبة لنقل المعارض". هذا مطلب منطقي ومعقول في أي دولة تحترم مواطنيها وتدرك أن الاستقرار الاقتصادي لا يتحقق بقرارات فجائية تدمر قطاعات بأكملها. لكن منطق الدولة العسكرية البوليسية مختلف: أوامر تُنفذ فوراً، ومن يعترض يُسحق، والمواطن مجرد رقم يمكن التضحية به في أي لحظة.

 

استثمارات بمليارات الجنيهات وآلاف الأسر في مهب الريح

 

القرار لا يهدد فقط أصحاب المعارض الـ300 "غير المرخصة"، بل يهدد منظومة اقتصادية كاملة تشمل سلاسل التوريد، والعمالة، والشركات المصنعة، والتوكيلات التجارية. معرض السيارات الواحد لا يعني فقط صاحبه، بل يعني عشرات الموظفين والعمال والفنيين والسائقين وعائلاتهم الذين يعتمدون عليه في رزقهم. إغلاق 300 معرض يعني تشريد آلاف الأسر ودفعهم إلى البطالة في ظل اقتصاد منهار لا يوفر فرص عمل بديلة.

 

الرابطة تحذر من أن القرار "يهدد استثمارات بمليارات الجنيهات"، وهذه ليست مبالغة. كل معرض يمثل استثمارات في العقار، والبنية التحتية، والمخزون من السيارات، والعلاقات التجارية مع التوكيلات والموردين. إغلاق هذه المعارض فجأة يعني خسائر فادحة لأصحابها، وتعطيل سلاسل التوريد، وإضعاف قدرة مصر على توطين صناعة السيارات كما تزعم الحكومة أنها تسعى لتحقيقه.

 

المفارقة القاسية أن نفس الحكومة التي تُغلق معارض السيارات بحجة "المخالفات" و"عدم الترخيص"، تمنح الجيش تسهيلات غير محدودة للعمل في كل القطاعات دون رقابة أو منافسة. الشركات العسكرية لا تدفع ضرائب كاملة، ولا تخضع للقوانين التي تُفرض على القطاع الخاص، ولا أحد يسأل عن تراخيصها أو قانونية أنشطتها. القانون يُطبق بصرامة على الضعفاء، ويُعلّق عند أبواب الثكنات العسكرية.

 

الحل الوحيد المقبول هو ما طالبت به الرابطة: فترة انتقالية معقولة، وتسهيل إجراءات التقنين، وتوفير بدائل حقيقية. لكن هذا يتطلب حكومة تحترم مواطنيها وتفهم معنى التنمية المستدامة، وهو ما لا يتوفر في نظام عسكري همه الوحيد السيطرة والقمع والحفاظ على "الشكل الحضاري" للعاصمة بينما الشعب يموت جوعاً.