في مشهد يحمل دلالات عسكرية ونفسية تتجاوز مجرد الإعلان عن خسائر بشرية، أطلت كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، عبر ناطق عسكري جديد، لتنعي نخبة من أبرز قادتها الذين شكلوا عصب العمليات والتصنيع والإعلام خلال سنوات الحرب الطويلة. الإعلان الذي تضمن أسماء ثقيلة بحجم قائد الأركان محمد السنوار والناطق العسكري "أبو عبيدة" وقادة الألوية والتصنيع، لم يأتِ بصيغة الانكسار، بل جاء ليؤكد -وفق خبراء عسكريين- على الطبيعة "المؤسسية" للمقاومة وقدرتها على امتصاص الضربات القاصمة وإعادة تدوير عجلة القيادة بسرعة قياسية.
الظهور الأول للمتحدث الجديد، الذي حاكى سلفه "أبو عبيدة" في كل تفصيل -من اللثام الأحمر والكوفية إلى لغة الجسد ونبرة الصوت- لم يكن مصادفة، بل رسالة مشفرة موجهة للاحتلال الإسرائيلي وللجبهة الداخلية على حد سواء. هذه الرسالة مفادها أن الأشخاص، مهما علا شأنهم وتعاظم تأثيرهم، يبقون مجرد واجهات لمؤسسة راسخة، وأن غياب الرمز لا يعني غياب الفكرة أو تعطل الماكينة العسكرية التي أدارت أطول حرب استنزاف في تاريخ الصراع مع الاحتلال.
"استنساخ القادة": رسائل الناطق الجديد ومنطق المؤسسة العسكرية
يرى الخبير العسكري والاستراتيجي اللواء فايز الدويري أن كتائب القسام أثبتت عملياً أنها تعمل وفق "نظام مؤسسي" محكم، لا يرتبط بقاءه ببقاء الأفراد. إن ظهور الناطق الجديد بالهيئة ذاتها تقريباً يعكس فلسفة تنظيمية عميقة ترى في "أبو عبيدة" وظيفة ورمزاً وليس مجرد شخص، مما يعني أن النظام الذي أنجب القادة الذين استشهدوا يمتلك الآليات والمرونة اللازمة لإنجاب قادة جدد يملؤون الفراغ فوراً.
هذا التكتيك الإعلامي والعسكري يهدف إلى إحباط أهداف الاحتلال النفسية من وراء الاغتيالات. فإسرائيل تسعى دائماً لتصوير اغتيال القادة كنهاية للمعركة، بينما ترد القسام باستبدال الوجوه مع الحفاظ على النهج والأسلوب، لتقول إن "المقاومة نهر لا يتوقف جريانه". إن استشهاد قادة بحجم محمد السنوار (خليفة الضيف)، ومحمد شبانة (قائد لواء رفح)، ورائد سعد (مهندس التصنيع)، وحكم العيسى، يمثل ضربة قاسية بلا شك، لكن سرعة تعيين البدلاء والظهور العلني للمتحدث الجديد يؤكد أن خطط التعاقب القيادي كانت جاهزة ومعدة سلفاً لمثل هذه السيناريوهات، مما يضمن استمرار السيطرة والتحكم في الميدان.
ميزان القوى المختل وتكتيكات الاستنزاف الذكية
في قراءة لموازين القوى، يشدد الدويري على خطأ مقارنة قدرات القسام بترسانة الاحتلال بمنطق التوازن التقليدي أو الكمي. فالعالم اليوم لا يُدار بقوة القانون بل بـ"قانون القوة"، مما يجعل الكفة تميل حتماً لصالح إسرائيل تسليحاً وتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن "المعجزة العسكرية" تكمن في كيفية توظيف القسام لإمكانياتها المحدودة للصمود والقتال بشراسة لمدة عامين كاملين، وهو ما عجزت عنه جيوش نظامية تمتلك ميزانيات ضخمة.
التحليل الميداني لمسار المعارك يكشف عن تطور تكتيكي فرضته ظروف الميدان وتآكل المخزونات. فقد لوحظ تراجع وتيرة إطلاق الصواريخ بعيدة المدى مقارنة بالأيام الأولى للحرب، لصالح التحول نحو "حرب العصابات" الكلاسيكية، مع التركيز على استخدام القذائف المضادة للدروع والاعتماد المتزايد على العبوات الناسفة والكمائن المركبة. هذا التحول يعكس براعة في إدارة المخزون العسكري المتبقي، حيث تحولت المقاومة من استراتيجية الهجوم الناري الكثيف إلى استراتيجية "اللدغات المؤلمة" والاقتصاد في الذخيرة لإطالة أمد المعركة واستنزاف العدو بأقل الإمكانيات المتاحة، دون أن يعني ذلك بالضرورة نفاد المخزون بالكامل، بل إدارته بذكاء وحكمة.
المعاناة الإنسانية وفلسفة "الفكرة التي لا تُهزم"
على الرغم من الصمود العسكري، لا يمكن إغفال العامل الإنساني الضاغط في قطاع غزة، والذي بات يشكل متغيراً حاسماً في معادلة الحرب. يرى اللواء الدويري أن حديث القسام المتكرر وموافقتها الضمنية أو الصريحة على مسارات وقف إطلاق النار لا ينبع من ضعف عسكري أو انكسار ميداني، بل من مسؤولية أخلاقية تجاه الحاضنة الشعبية التي دفعت أثماناً باهظة من الدماء والدمار. المقاومة تدرك أن استمرار القتال بنفس الوتيرة قد يكون ممكناً عسكرياً، لكنه مكلف جداً إنسانياً، مما يدفعها للموازنة بين ضرورات الميدان ووجع الناس.
وفي الختام، يخلص التحليل إلى حقيقة تاريخية راسخة: الرهان على القضاء على المقاومة عبر "نزع السلاح" أو اغتيال القادة هو رهان خاسر يتجاهل دروس التاريخ وحركات التحرر العالمية. فالمقاومة، كما يصفها الدويري، هي "فكرة"، والفكرة لا تموت بموت أصحابها ولا تُهزم بتدمير البنادق. إن استشهاد القادة العظام، بدءاً من محمد الضيف ومروان عيسى وصولاً إلى السنوار وأبو عبيدة، قد يغير شكل المعركة أو تكتيكاتها، لكنه لن ينهي جذوة المقاومة طالما بقي الاحتلال قائماً، وطالما بقي الشعب الفلسطيني متمسكاً بحقه في الدفاع عن نفسه، وهو حق لا يمكن تصنيفه إرهاباً مهما اختلت موازين القوى العالمية.

