في حلقة جديدة من مسلسل الموت المجاني الذي يطارد الشباب المصري، أعلن خفر السواحل اليوناني، اليوم، العثور على جثة امرأة متوفاة عقب غرق قارب هجرة غير شرعية قبالة جزيرة "ساموس"، بينما لا تزال عمليات البحث جارية عن مفقودين آخرين. هذا الحادث المأساوي ليس مجرد "خبر عاجل" تتناقله الوكالات، بل هو وصمة عار جديدة تلاحق نظامًا سياسيًا واقتصاديًا في مصر، نجح بامتياز في تحويل البلاد إلى "بيئة طاردة" لأبنائها، حتى بات "قاع البحر" أرحم في عيونهم من جحيم الغلاء والقمع وفقدان الأمل.
الحادث الأخير، وما سبقه في 7 ديسمبر قبالة جزيرة "كريت"، يفتح ملف التخاذل الحكومي على مصراعيه. فبينما تسارع الدول المتحضرة لإرسال فرق إنقاذ وطائرات للبحث عن مواطن واحد مفقود، تكتفي "الحكومة المصرية" بدور المشاهد، مصدرة بيانات العزاء والتحذير من "عصابات الهجرة"، متجاهلة أنها هي "العصابة الكبرى" التي سرقت أحلام هؤلاء الشباب ودفعتهم للمجهول.
أرقام الدم: 27 مفقودًا وقتيلاً.. والناجون شهود على المأساة
تشير البيانات الرسمية –التي تأتي دائمًا متأخرة– إلى أن الحادث المروع الذي وقع جنوب جزيرة كريت في أوائل ديسمبر 2025، كان على متنه 34 شخصًا، منهم 27 مصريًا من الشباب والأطفال (تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عامًا). الحصيلة المفزعة كشفت عن وفاة 14 مصريًا تم انتشال جثثهم، بينما لا يزال 13 آخرون في عداد المفقودين، تبتلعهم أمواج المتوسط دون أثر.
ورغم فداحة الكارثة، لم تتحرك الدولة المصرية إلا بعد أيام، حيث أعلنت السفارة في أثينا بدء إجراءات شحن الجثامين الـ 14 يوم الثلاثاء 23 ديسمبر، أي بعد مرور أكثر من أسبوعين على الحادث! هذا التباطؤ في "إكرام الميت" يعكس بيروقراطية قاتلة واستهتارًا بمشاعر أسر مكلومة في قرى مصر الفقيرة، تنتظر جثامين أبنائها لتدفنها بدلًا من أن تزفهم عرسانًا.
لماذا غابت "الضفادع البشرية" المصرية؟ سؤال يبحث عن إجابة
النقطة الأكثر إثارة للغضب في هذا الملف هي الغياب التام لأي تحرك عملياتي مصري للمشاركة في الإنقاذ. لماذا لم ترسل الحكومة المصرية فريقًا من "الإنقاذ النهري" أو القوات البحرية للمساعدة في البحث عن المفقودين الـ 13، كما تفعل في الاستعراضات العسكرية؟
السلطات اليونانية وحدها هي من تقوم بالبحث باستخدام زوارق ومروحيات، بينما يكتفي الجانب المصري بـ "الاتصالات الهاتفية" و"متابعة الموقف". هذا التقاعس يطرح تساؤلاً مريرًا: هل دماء هؤلاء الشباب "رخيصة" لدرجة لا تستدعي تحريك قطعة بحرية واحدة؟ أم أن النظام يعتبرهم "خارجين عن القانون" لأنهم فضحوا فشله الاقتصادي بهروبهم، وبالتالي لا يستحقون الإنقاذ؟ إن ترك مصير المصريين لجهود دولة أخرى –مهما كانت صديقة– هو تنازل عن السيادة ومسؤولية الحماية التي يتشدق بها الدستور.
الهروب من "الجمهورية الجديدة".. الفقر هو القاتل الحقيقي
لا يمكن قراءة هذه الحوادث بمعزل عن السياق الداخلي. هؤلاء الضحايا، وأغلبهم قُصر، لم يركبوا "مراكب الموت" حبًا في المغامرة، بل هربًا من واقع اقتصادي خانق صنعته سياسات النظام الحالي. عندما يصبح "رغيف الخبز" حلمًا، وفرصة العمل المستحيلة، والاعتقال مصير من يعترض، يصبح البحر هو "طوق النجاة" الوحيد.
إن حكومة "الجباية" التي تلاحق المواطن في رزقه، هي المتهم الأول في هذا الغرق. فبدلًا من توفير مشاريع تنموية حقيقية تستوعب طاقة الشباب، أنفقت المليارات على قصور رئاسية وقطارات للأغنياء، وتركت "الغلابة" يواجهون مصيرهم. رسالة هؤلاء الغرقى المكتوبة بماء البحر تقول بوضوح: "لقد قتلنا اليأس في وطننا قبل أن تقتلنا أمواج اليونان". وما لم تتغير هذه السياسات، ستظل شواطئ أوروبا تستقبل جثث المصريين، وسيظل النظام يكتفي ببيانات الشجب والنعي البارد.

