في حلقة جديدة من مسلسل التنكيل بالقطاع الطبي وتفريغ مصر من كوادرها، شنت وزارة الصحة في حكومة الانقلاب هجمة شرسة على جيوب الأطباء، مستهدفة هذه المرة "حافز الإشراف" الذي يعد جزءاً أصيلاً من مستحقات القيادات الطبية والإشرافية. فبدلاً من تكريم "الجيش الأبيض" الذي يتصدر الصفوف في مواجهة الأوبئة وتردي المنظومة الصحية، فوجئ المئات من الأطباء بقرارات تعسفية توقف صرف مستحقاتهم المالية المقررة قانوناً، في خطوة تكشف عن عقلية "الجباية" التي تدير بها السلطة ملفات الموظفين، حيث لا تتورع عن السطو على الحقوق المالية الثابتة لتقليص عجز الموازنة على حساب قوت المواطنين.
الأزمة تفجرت بعد اكتشاف عدد كبير من الأطباء توقف صرف الحافز المالي الذي يتراوح قانوناً بين 200% و600% من الأجر الأساسي، واستبداله بفتات مالي تحت مسمى "مبالغ مقطوعة"، في تحايل قانوني مفضوح أثار موجة غضب عارمة ودفع الأطباء لطرق أبواب النيابة الإدارية ولجان الفتوى، بحثاً عن حق ضائع في دهاليز البيروقراطية الحكومية الفاسدة.
"ألاعيب المبالغ المقطوعة".. غطاء لسرقة الجهود
تتمثل الكارثة الكبرى في المنشور الذي عممته وزارة الصحة، والذي يُعد وثيقة إدانة لسياسات الحكومة. فقد تذرعت الوزارة بالقانون رقم (14) لسنة 2024 لتقر الصرف بـ"مبالغ مقطوعة" (أرقام ثابتة وزهيدة لا تتماشى مع التضخم)، متجاهلة عمداً النسب المئوية المقررة في القانون الأصلي رقم (14) لسنة 2014.
هذا الإجراء ليس مجرد خطأ إداري، بل هو "سرقة مقنعة". فالحكومة تعلم جيداً أن حساب الحافز كنسبة مئوية من الأجر الأساسي يضمن زيادته مع أي تحرك في المرتبات، وهو ما لا تريده. لذا، لجأت إلى تجميد هذه النسبة واستبدالها بأرقام مقطوعة هزيلة، متحصنة بانتظار "رد إدارة الفتوى بمجلس الدولة"، وهي حيلة حكومية معتادة للمماطلة وكسب الوقت، بينما يستمر الخصم من رواتب الأطباء شهرياً دون وجه حق. إن هذا التحايل يكشف أن السلطة لا ترى في الطبيب سوى "بند إنفاق" يجب تقليصه، متجاهلة أن هذه الحوافز هي مقابل أعباء إشرافية وقيادية في مستشفيات تفتقر لأبسط الإمكانيات.
"تُزاد" لا "تُستبدل".. فضح أكذوبة الحكومة بالأدلة
تصدى الدكتور إيهاب الطاهر، عضو مجلس نقابة الأطباء الأسبق، لهذه "المذبحة المالية"، كاشفاً العوار القانوني وسوء النية لدى الحكومة. فالمادة 16 من قانون 2014 نصت بوضوح على صرف الحافز كنسبة مئوية. وعندما جاء تعديل 2024، استخدم المشرع لفظ "تُزاد"، ولم يقل "تُستبدل".
هذا التلاعب اللفظي هو جوهر الأزمة؛ فالحكومة تفسر "الزيادة" على أنها "إلغاء للقديم وإحلال للجديد"، وهو تفسير لا يقبله عقل ولا قانون، وهدفه الوحيد هو "القرصنة" على أموال الأطباء. فالمنطق القانوني السليم، كما أكد المستشارون القانونيون، يقضي بأن يجمع الطبيب بين النسبة المئوية القديمة وبين الزيادة المقطوعة الجديدة، لا أن تُلغى النسبة الأعلى لصالح المبلغ الأقل. إن إصرار وزارة الصحة على هذا التفسير المعوج يؤكد أن هناك "تعليمات عليا" بتجفيف منابع دخل الأطباء، ودفعهم قسراً إما للاستقالة أو الهجرة، في وقت تعاني فيه البلاد من عجز صارخ في الأطقم الطبية.
دوامة التقاضي.. الملاذ الأخير لانتزاع الحقوق
أمام هذا التعنت، لم يعد أمام الأطباء سوى خوض معركة قضائية طويلة لاسترداد حقوقهم. الدعوات التي أطلقها الدكتور الطاهر لتقديم طلبات رسمية ثم التوجه للجان فض المنازعات والقضاء الإداري، تعكس حالة "الانسداد" التي وصل إليها الحال. فالحكومة تجبر موظفيها على مقاضاتها للحصول على رواتبهم!
المطالبة بصرف الفروق المالية بأثر رجعي من مارس 2024 هو حق أصيل، لكن الحكومة تراهن على يأس الأطباء من طول أمد التقاضي. إن ما يحدث هو رسالة واضحة من حكومة الانقلاب لكل الكفاءات في مصر: "لا مكان لكم هنا، ولا حقوق لكم عندنا". فبينما تُهدر المليارات على مشاريع "الشو الإعلامي" والقصور الرئاسية، تُبخل الدولة على الطبيب الذي يدير المستشفى بحافز زهيد، وتتحايل بالقانون لسرقته، لتكتب بذلك فصلاً جديداً في كتاب فشلها الذريع في إدارة ملف الصحة وحماية كرامة الإنسان.

