تواجه صناعة السكر في مصر، وهي واحدة من أعرق الصناعات الاستراتيجية في البلاد، أزمة وجودية غير مسبوقة تضع مصير آلاف العاملين ومستقبل الأمن الغذائي على المحك.

 

فبينما تحتفل الحكومة المصرية بوصول الإنتاج المحلي إلى مستويات تاريخية بلغت 3.12 مليون طن وتحقيق شبه اكتفاء ذاتي، تعيش المصانع الوطنية—سواء الحكومية أو الخاصة—كابوساً مالياً قد ينتهي بها إلى الإغلاق التام.

 

المفارقة الصارخة تكمن في أن هذا "الانهيار المالي" يحدث في ظل وفرة الإنتاج، وليس ندرته، حيث تجد المصانع نفسها عاجزة عن تصريف مخزونها المتراكم في مواجهة منافسة شرسة وغير متكافئة مع السكر المستورد، وتكاليف إنتاج محلية تبتلع العوائد.

 

رغم التدخل الحكومي ممثلاً في قرار وزارة الاستثمار بحظر استيراد السكر المكرر حتى فبراير 2026، إلا أن الواقع على الأرض يشير إلى أن القرار جاء متأخراً أو غير كافٍ لسد الثغرات التي تنزف منها الصناعة الوطنية.

 

الأزمة الحالية لم تعد مجرد "ركود مؤقت"، بل تحولت إلى معضلة هيكلية تتشابك فيها السياسات الزراعية مع القرارات المصرفية وآليات السوق المفتوحة، مما أجبر قلاع الصناعة على الاختيار بين "البيع بخسارة فادحة" لتوفير السيولة، أو "الاحتفاظ بالمخزون" وتحمل فوائد بنكية تأكل الأخضر واليابس.

 

ثغرة "السكر الخام" وحرب الأسعار غير المتكافئة

 

يكمن جوهر الأزمة في الاختلال الهائل بين تكلفة الإنتاج المحلي وسعر البيع الذي يفرضه المستورد. فبينما نجحت الحكومة في غلق الباب أمام "السكر الأبيض المكرر"، ظلت النافذة مفتوحة لاستيراد "السكر الخام".

 

استغل بعض المستوردين والشركات هذه الثغرة لاستيراد السكر الخام بأسعار عالمية منخفضة للغاية—وصلت لأدنى مستوياتها منذ 5 سنوات—ثم تكريره محلياً وطرحه في الأسواق بتكلفة إجمالية لا تتجاوز 24 ألف جنيه للطن (22 ألف سعر استيراد + 2000 تكلفة تكرير).

 

في المقابل، تجد المصانع الوطنية التي تعتمد على زراعة البنجر والقصب نفسها مكبلة بتكاليف إنتاج باهظة تتجاوز 30 ألف جنيه للطن، مدفوعة بارتفاع أسعار توريد المحاصيل والطاقة ومستلزمات التشغيل.

 

هذا الفارق السعري الذي يصل إلى 6 آلاف جنيه في الطن الواحد خلق بيئة منافسة "صفرية"، حيث يُباع المنتج المحلي بخسارة مباشرة لمجاراة سعر السوق. وتشير التقديرات إلى أن إجمالي خسائر المصانع هذا العام قد يتجاوز 10 مليارات جنيه، وهو رقم كارثي يهدد بتآكل رؤوس الأموال.

 

المطالبات بفرض رسوم إغراق أو "كوتا" صارمة على السكر الخام باتت الصيحة الأخيرة للمصنعين الذين يرون أن الصناعة المحلية تدفع ثمن الدعم المقدم للمزارعين الأجانب في بلاد المنشأ، بينما يُترك المنتج المصري بلا حماية حقيقية.

 

أزمة السيولة والقيود المصرفية الخانقة

 

لم يتوقف النزيف عند حدود فارق السعر، بل امتد ليضرب العصب المالي للشركات: "السيولة". تكدس المخزون الراكد الذي وصل إلى 1.3 مليون طن وضع الشركات في مأزق حرج أمام التزاماتها تجاه المزارعين. ففي مصنع حكومي واحد، بلغت مستحقات مزارعي البنجر المتأخرة 5 مليارات جنيه، مما يهدد السلم الاجتماعي وسلاسل التوريد الزراعية للمواسم القادمة.

 

أمام هذا الوضع، اضطرت المصانع لتبني استراتيجية "الهروب إلى الأمام" عبر البيع بخسارة تتراوح بين 3 إلى 6 آلاف جنيه في الطن. المنطق وراء هذا الانتحار الاقتصادي هو أن "الخسارة في البيع أقل ضرراً من تكلفة التخزين"، حيث يضيف كل طن مخزن أعباءً تمويلية (فوائد بنكية) تقدر بـ 4 آلاف جنيه سنوياً.

 

زاد الطين بلة موقف القطاع المصرفي؛ حيث بدأت البنوك في التعامل بحذر شديد مع ملف تمويل شركات السكر المعتمدة على البنجر، واعتبرتها "عالية المخاطر". توقف التمويلات الجديدة أو التشدد في منحها يعني شللاً تاماً لقدرة هذه المصانع على شراء المحصول في الموسم الجديد أو صيانة خطوط الإنتاج، مما يدفع بها نحو تعثر مالي قد ينتهي بإشهار الإفلاس أو التصفية، خاصة مع عجز كبار المنتجين عن سداد أقساط الديون في مواعيدها نتيجة ضعف التدفقات النقدية.

 

مستقبل غامض: بين خفض التوريد وانفراجة "رمضان"

 

في محاولة لاحتواء الأزمة مستقبلاً، لجأت الحكومة إلى حلول قد تكون مؤلمة للمزارع، حيث خفضت السعر الاسترشادي لتوريد بنجر السكر لموسم 2025-2026 بنسبة 16.6% ليهبط من 2400 إلى 2000 جنيه للطن. تهدف هذه الخطوة إلى خفض تكلفة الإنتاج وموازنة المعروض، لكنها تحمل في طياتها خطراً آخر يتمثل في عزوف المزارعين عن زراعة البنجر، مما قد يعيد البلاد إلى مربع نقص الإنتاج والاعتماد على الاستيراد مرة أخرى.

 

ورغم قتامة المشهد، تلوح في الأفق بعض بوادر الانفراجة المؤقتة مع اقتراب شهر رمضان المبارك، الذي يشهد عادةً ذروة الاستهلاك السنوي للسكر في مصر. يراهن المنتجون والمسؤولون، ومنهم رئيس شعبة السكر باتحاد الصناعات، على أن ارتفاع الطلب الموسمي تزامناً مع سريان حظر الاستيراد قد يساهم في تصريف جزء كبير من المخزون الراكد وتحسين التدفقات النقدية. إلا أن هذا الرهان يظل حلاً مسكناً وليس علاجاً جذرياً.

 

الخلاصة أن صناعة السكر في مصر تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم؛ فإما تدخل حكومي حاسم يتجاوز القرارات المؤقتة ليشمل فرض رسوم حماية عادلة تضمن تكافؤ الفرص وتنقذ الاستثمارات الوطنية، وإما ترك السوق لآلياته الشرسة التي قد تطيح بصناعة استراتيجية، مخلفةً وراءها خسائر اقتصادية واجتماعية يصعب تعويضها، ليعود شبح "أزمة السكر" للظهور ولكن هذه المرة ليس بسبب نقص السلعة، بل بسبب انهيار منتجها.