أثار قرار محافظة القاهرة إزالة ضريح أمير الشعراء أحمد شوقي، أحد أبرز رموز الثقافة العربية الحديثة، موجة واسعة من الجدل الثقافي والحقوقي، بعدما جرى تفكيك الضريح ونقل رفات الشاعر الكبير إلى ما يُعرف بـ«مقبرة الخالدين»، في خطوة اعتبرها كثيرون تجاوزًا لحدود التطوير العمراني إلى المساس بالرموز والذاكرة التاريخية للمدينة.
أحمد شوقي (1868–1932)، الذي بايعه شعراء العرب أميرًا للشعر في مطلع القرن العشرين، لا يُعد مجرد شاعر بارز، بل محطة مركزية في تاريخ النهضة الأدبية العربية، وصاحب تأثير ممتد في الوجدان الثقافي العام. وقد مثّل ضريحه، بموقعه وتركيبته المعمارية الفخمة، جزءًا من المشهد الرمزي لجبانات القاهرة التاريخية، التي تضم رفات أعلام السياسة والفكر والأدب عبر قرون.
وبحسب ما أُعلن رسميًا، فإن المحافظة أشرفت على نقل الرفات وتفكيك الضريح ضمن أعمال تنظيم وتطوير، إلا أن هذه الخطوة جاءت في سياق أوسع من الإزالات التي طالت مقابر وشواهد تاريخية، ما فجّر تساؤلات حول معايير التطوير وحدود الحفاظ على التراث.
معركة قانونية بلا سند نافذ
منذ عام 2024، حاولت منظمات حقوقية ومدنية نقل الاعتراض من المجال الإعلامي إلى ساحة القضاء، حيث تقدمت جهات من بينها «المبادرة المصرية للحقوق الشخصية» و«المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» بدعاوى تطالب بوقف أعمال الهدم في الجبانات التاريخية.
غير أن هذه الدعاوى اصطدمت بعقبات قانونية، أبرزها عدم توافر ما يُعرف بـ«المصلحة المباشرة» للمدعين، إضافة إلى دفوع إجرائية حالت دون تحريك القضايا، ما سمح باستمرار الإزالات بوتيرة متقطعة.
ومع بداية عام 2025، اتسعت رقعة الهدم لتشمل جبانة «باب النصر» في شمال القاهرة القديمة، حيث أُزيلت مساحات واسعة لصالح مشروع إنشاء موقف سيارات متعدد الطوابق ومرافق خدمية وتجارية.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن المساحات التي جرى تسويتها بالأرض تجاوزت 13 ألف متر مربع، وهو ما أعاد طرح سؤال جوهري حول أولويات التنمية في مدينة مثقلة بالتاريخ، وحدود التضحية بالموروث العمراني لصالح المشروعات الاستثمارية.
«محو لذاكرة مدينة»
في خضم هذا الجدل، برزت تحذيرات أكاديمية واضحة، كان أبرزها صوت أستاذة التخطيط العمراني جليلة القاضي، التي اعتبرت أن ما يحدث في مناطق مثل «قرافة الإمام» و«السيدة نفيسة» لا يمكن اختزاله في توسعات طرق أو تحسين بنية تحتية، بل يمثل مسارًا ممنهجًا لإزالة الجبانات التاريخية من خريطة القاهرة.
وفي مقدمة الترجمة العربية لكتابها «جبانة القاهرة التاريخية: ألف وأربعمائة عام»، شرحت القاضي ما وصفته بمآلات الهدم، مؤكدة أنه جزء من مخطط أوسع جرى تداوله منذ عام 2021، بدأ بإزالة أجزاء من جبانة السيدة نفيسة وجبانة السيوطي، ثم امتد إلى منطقة الأباجية التي تضم ضريح عميد الأدب العربي طه حسين.
وأضافت أن الإزالات لم تتوقف عند هذا الحد، بل طالت مقابر رموز ثقافية مثل يحيى حقي، فضلًا عن تفكيك مآذن أثرية في مناطق السيدة عائشة والإمام السيوطي بزعم الترميم، دون إعادتها لاحقًا.
مبادرات توقفت وهدم عاد
في محاولة لوقف النزيف، أطلقت القاضي مع مجموعة من المعماريين والمؤرخين مبادرة «إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية»، ونجحت الضغوط التي مارستها المبادرة في إصدار بيان رسمي أوقف الإزالات مؤقتًا، مع الحديث عن مشروع بديل يوازن بين التطوير والحفاظ على التراث.
غير أن هذا التوافق لم يصمد طويلًا، إذ استؤنفت أعمال الهدم لاحقًا، ما دفع أعضاء اللجنة إلى الاستقالة، بالتزامن مع تشديد الرقابة الأمنية على المناطق المتأثرة، ومنع التصوير، واعتقال بعض النشطاء المعترضين على الإزالات.

