تدخل المقاومة الفلسطينية في غزة مرحلة بالغة الخطورة، بعد حرب استنزاف مفتوحة حاول الاحتلال عبرها تحطيم البنية العسكرية للمقاومة وفرض معادلة «غزة منزوعة السلاح» تحت غطاء القرار الدولي وخطط «اليوم التالي».
في المقابل، لا تزال أصوات عديدة من الخبراء والمحللين، من ياسر الزعاترة ونظام المهداوي وعادل شديد، إلى فايز/فايد أبو شمالة وأبو علي الديراني والحقوقي رامي عبده ود. مراد علي، تؤكد أن جوهر المعركة لم يتغير: الاحتلال يريد تجريد غزة من قدرتها على الردع والضغط، بينما تحاول المقاومة تحويل ما بقي من قوتها العسكرية والرمزية إلى ورقة تمنع التهجير وتفرض حضورها في أي ترتيبات قادمة.
هذه الأصوات تلتقي عند نقطة مركزية: لا خيار حقيقي أمام مشروع التحرر الفلسطيني سوى الإصرار على بقاء المقاومة، مع تطوير أدواتها ووعيها السياسي، بدل الانخراط في مسار تصفية تدريجية تحت مسمى «حلول سياسية».
مشروع نزع السلاح: جوهر الصراع في المرحلة المقبلة
يشير الباحث في الشأن الإسرائيلي عادل شديد إلى أن نواة الرؤية الإسرائيلية – خاصة في تركيبة اليمين المتطرف – تقوم على نزع سلاح حماس وباقي فصائل المقاومة دون تقديم أي أفق سياسي حقيقي للفلسطينيين، أي تحويل غزة إلى «مساحة معيشية مضبوطة أمنيًا» لا أكثر. هذا يعني أن كل ما يُطرح عن إعادة إعمار أو إدارة مدنية أو ترتيبات أمنية دولية يدور حول سؤال واحد: هل ستظل للمقاومة قدرة على الضغط والتهديد، أم ستتحول إلى قوة سياسية منزوعة المخالب؟ في هذا الإطار، تصبح خيارات المقاومة بين قبول صيغ هدنة طويلة مشروطة بتقليص السلاح، أو التمسك بالبنية القتالية في شكل حرب استنزاف طويلة، رغم كلفتها الهائلة على مجتمع أنهكته المجازر والحصار.
«فيتنام غزة».. معادلة الاستنزاف كما يراها الزعاترة والمهداوي
المحلل ياسر الزعاترة تحدث مرارًا عن أن أي محاولة احتلال مباشر طويل لغزة ستضع جيش الاحتلال في حالة «فيتنام جديدة»، حيث تتحول المقاومة إلى حرب عصابات تستنزف العدو في الأزقة والأنفاق بدلاً من الجبهات المفتوحة. هذا التصور يتقاطع مع رؤية نظام المهداوي، الذي يرى أن كل الأنظمة العربية خاضعة بالكامل للوصاية الأميركية، بينما تواصل غزة – رغم الحصار – رفض الخضوع، ما يجعلها الجيب الوحيد الذي يربك معادلات الهيمنة. وفق هذا المنطق، أحد الخيارات الواقعية للمقاومة هو ترسيخ نمط قتال طويل النفس داخل قطاع مدمّر، يحول وجود العدو إلى عبء سياسي وعسكري دائم، مع الحفاظ على خط أحمر واضح: لا تهجير جماعي، ولا قبول بصيغة إدارة أمنية تعيد غزة إلى حالة «سجن بلا مقاومة».
البعد الحقوقي: رامي عبده ومعركة الشرعية الدولية
رئيس المرصد الأورومتوسطي رامي عبده يذكّر دائمًا بأن استمرار المجازر تجاهلًا لقرارات مجلس الأمن والهيئات الدولية يكشف أن الاحتلال لا يخشى القانون الدولي إلا عندما يتحول إلى سلاح في يد الضحايا. لذلك، فإن خيار المقاومة في المرحلة القادمة لا يقتصر على السلاح، بل يتطلب تحويل توثيق الجرائم والملفات الحقوقية إلى جبهة موازية لميادين القتال. هذه المقاربة تمنح المقاومة غطاء شرعيًا أمام الرأي العام العالمي، بما يعرّي ازدواجية القوى الكبرى التي تبارك نزع سلاح الضحية وتتغاضى عن جرائم المعتدي، وتُبقي في الوقت نفسه على حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه ورفض التهجير.
أصوات من قلب غزة: أبو شمالة وأبو علي الديراني ومعنى الصمود
في قراءة د.فايز أبو شمالة، فإن غزة تعيش معادلة «لقمة مغمسة بالدم»؛ شعب يُذبح ببطء لكنه يرفض الاستسلام، ما يجعل بقاء المقاومة – ولو بأدوات محدودة – شرطًا لمنع تحوّل الموت المجاني إلى هزيمة سياسية. من جهته، يقدّم أبو علي الديراني، بتجربته في سياق مقاوم آخر، خلاصة واضحة: لولا وجود مقاومة فعّالة لما كان هناك هذا القدر من الاهتمام الدولي بقضية غزة والأسرى والضحايا؛ المقاومة هي التي تفرض الموضوع على الأجندة الدولية، لا العكس. هاتان الرؤيتان تعززان خيارًا أساسيًا: الحفاظ على نواة صلبة من الكادر المقاوم، مع توزيع الأدوار بين من يواصل القتال ومن يدير الشأن المدني والإغاثي، حتى لا تُستنزف كل الطاقات في المواجهة العسكرية وحدها.
البعد الإقليمي والقرار الدولي: قراءة مراد علي
يربط د. مراد علي بين قرارات مجلس الأمن واصطفاف الإدارة الأميركية والأنظمة العربية، معتبرًا أن أي «خطة لغزة» لا تنطلق من حق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير، إنما تقوم فعليًا بتثبيت الاحتلال وتوفير غطاء شرعي لنزع السلاح وتقييد المقاومة. في ضوء هذه القراءة، يظهر خيار استراتيجي للمقاومة وقوى الشعب الفلسطيني: التعامل بحذر مع أي مسار سياسي دولي، ورفض إعطاء شرعية مجانية لقرارات منحازة، مع الاستفادة من تناقضات الساحة الدولية لصالح تثبيت حقيقة أن الاحتلال هو أصل المشكلة، وأن نزع سلاح الضحية لا يمكن أن يكون مدخلًا لحل عادل.
خيارات مكلفة لكن بديلة للهزيمة
مجمل آراء هؤلاء الخبراء تشير إلى أن المقاومة في غزة لا تمتلك ترف الاختيار بين «سلام حقيقي» و«حرب مفتوحة»، بل بين مسارات كلها مكلفة، أخفّها ضررًا هو الإصرار على بقاء قوة ردع – ولو محدودة – تحمي الأرض والناس من التهجير، وتمنع تحويل غزة إلى كانتون منزوع الإرادة. السلاح وحده لا يكفي، لكن غياب السلاح في ظل احتلال عدواني يعني عمليًا التسليم بمشروع التصفية. لذلك، يبدو الخيار الواقعي اليوم هو مزيج من: حرب استنزاف محسوبة، معركة حقوقية دولية، وترتيب داخلي فلسطيني يعيد تعريف دور المقاومة كحركة تحرّر، لا كعقبة أمام «سلام وهمي» يرعاه الاحتلال وحلفاؤه.

