في توقيت لا يمكن وصفه بالمصادفة، وبينما كانت أنظار العالم تتجه نحو القاهرة لمشاهدة الافتتاح التاريخي للمتحف المصري الكبير في الأول من نوفمبر، كانت الرياض على بعد ساعات تطلق العنان لفعالية "أنا عربية" الفاخرة في الثالث من الشهر ذاته، ويستمر حتى 8 نوفمبر2025م ، حيث يُفتح يوميًا من الساعة 4 مساءً حتى منتصف الليل.
هذا التزامن بين الحدثين الأضخم ثقافيًا في المنطقة لا يمثل مجرد تقاطع في الأجندات، بل هو تجسيد حي ومباشر لصراع النفوذ الناعم المحتدم بين القوتين الإقليميتين، مصر والمملكة العربية السعودية، حيث تراهن كل منهما على استراتيجية مختلفة تمامًا لحجز مقعد الريادة الثقافية والاقتصادية في قلب العالم العربي.
المتحف الكبير: رهان مصر على عمق التاريخ
يمثل افتتاح المتحف المصري الكبير تتويجًا لحلم مصري امتد لعقود، ورهانًا استراتيجيًا من الدولة المصرية على أثمن ما تملكه: تاريخها الفريد الذي لا ينافسها فيه أحد. بتقديمه كنوز حضارة تمتد لآلاف السنين، وعلى رأسها المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون لأول مرة، تبعث القاهرة برسالة واضحة مفادها أنها الأصل ومنبع الحضارة، وأن قوتها الناعمة تكمن في عمقها التاريخي الذي لا يمكن شراؤه أو استنساخه.
الحدث بحد ذاته هو محاولة لاستعادة الزخم السياحي والثقافي الذي تآكل على مدى سنوات، وتأكيد على أن القاهرة لا تزال مركزًا للثقافة والتاريخ في المنطقة. لكن هذا الرهان، رغم أهميته، يعتمد على الماضي كرافعة للمستقبل، في وقت يتغير فيه مفهوم القوة والتأثير في المنطقة بشكل متسارع.
"أنا عربية": السعودية تصنع حاضرًا ومستقبلاً بمالها
في المقابل، تقدم السعودية عبر معرض "أنا عربية"، الذي يقام ضمن فعاليات "موسم الرياض" الضخمة، ردًا استراتيجيًا ومختلفًا تمامًا. لا ينافس المعرض تاريخ مصر، بل يتجاوزه ليقدم نفسه كحاضنة للمستقبل الإبداعي العربي. باستضافته أكثر من 300 مصمم ومصممة وعلامة تجارية من 22 دولة عربية، على مساحة تتجاوز 12 ألف متر مربع، لا تقول الرياض "أنا سعودية" بل "أنا عربية"، في محاولة واضحة لتقديم نفسها كعاصمة جديدة للإبداع والأزياء والفن والموضة في العالم العربي، وهو دور لطالما لعبته القاهرة وبيروت.
شعار المعرض "الحلم يستمر"، وتزامنه مع "صالون المجوهرات" الفاخر، يؤكدان أن الاستراتيجية السعودية لا تقوم على التاريخ، بل على القوة المالية الهائلة، والقدرة على تنظيم فعاليات عالمية المستوى تجمع الفخامة والأعمال والإبداع المعاصر. إنها رسالة بأن المستقبل لا يكمن في المتاحف المغلقة، بل في الأسواق المفتوحة والفعاليات البراقة التي تجذب المواهب ورؤوس الأموال العربية.
صراع الروايات: الأصالة مقابل الحداثة الفاخرة
هنا يكمن جوهر الصراع: مصر تبيع "الأصالة" و"التاريخ"، وهي سلعة ثمينة لكنها ثابتة. أما السعودية فتبيع "الحداثة" و"المستقبل"، وهي رؤية ديناميكية وقابلة للتوسع بشكل لا نهائي بدعم من الإنفاق الحكومي السخي. المتحف المصري الكبير هو دعوة للعالم لاكتشاف ماضي مصر العظيم. أما معرض "أنا عربية" فهو دعوة للمبدعين ورجال الأعمال العرب لصناعة مستقبلهم انطلاقًا من الرياض.
إن إقامة معرض يجمع 22 دولة عربية تحت سقف واحد في الرياض، وفي نفس الأسبوع الذي تفتتح فيه مصر أهم مشروع ثقافي في تاريخها الحديث، هو بمثابة سحب للبساط الرمزي من تحت أقدام القاهرة. إنه إعلان بأن مركز الثقل العربي، ثقافيًا واقتصاديًا، ينتقل شرقًا، وأن الرياض تمتلك الطموح والمال لتكون هي القائدة الجديدة للمشهد العربي.
من يربح معركة النفوذ؟
في النهاية، يبدو أن معرض "أنا عربية" ليس مجرد فعالية ترفيهية، بل هو رد مدروس وذكي على افتتاح المتحف المصري الكبير. إنه جزء من استراتيجية سعودية أوسع لإعادة تعريف مفهوم الريادة في المنطقة، بنقلها من الاعتماد على الرصيد التاريخي إلى القدرة على صناعة الأحداث وتشكيل المستقبل. وبينما تحتفي مصر بماضيها المجيد، تبني السعودية حاضرًا لامعًا وتعد بمستقبل أكثر بريقًا، تاركةً السؤال مفتوحًا حول من سيربح في النهاية معركة النفوذ الثقافي والاقتصادي في الشرق الأوسط الجديد.

