هشام يونس
كاتب وصحفي مصري
لا يبدو رئيس الكاميرون، الذي يجلس على مقعد الحكم منذ عام 1982 في ذلك البلد الواقع غرب إفريقيا، سياسيًا عاديًا له طموح طبيعي في الاستمرار على رأس السلطة، بل يبدو أنه مصاب بمتلازمة الجلوس على مقعد الرئاسة، التي تجعله يقدم على تكرار ترشحه للانتخابات الرئاسية، وأن يقدم مجددًا على تلك الخطوة وهو في عقده العاشر، وبعد أن بدأ عامه الثاني والتسعين.
لم تعرف الكاميرون طوال 65 سنة منذ الاستقلال عن فرنسا في الأول من يناير/كانون الثاني عام 1960، سوى رئيسين فقط، هما “أحمدو أهيجو”، الذي تولى الحكم من عام 1960 حتى 1982، ثم “بول بيا”، الذي تولى الحكم في انتقال هادئ للسلطة منذ عام 1982 وحتى الآن.
الحكم عن بعد!
وعلى مدى 43 عامًا، كان “بول بيا” أحد أكثر القادة الأفارقة إثارة للجدل، فقد اشتهر بأنه يقضي مع زوجته فترات طويلة في فنادق سويسرا الفخمة، دون أن يهتز عرشه أو يفقد مكانته، في ظاهرة نادرة للحكم عن بعد.
أحيانًا، كان “بيا” يقضي عامًا أو أكثر بعيدًا عن البلاد التي يرأسها، ولكن شيئًا لم يتغير في غيابه، فقد حافظت الكاميرون على معدلات الفقر ذاتها، وعلى وتيرة القمع نفسها، وعلى ملامح الحكم الديكتاتوري بكل تفاصيله، مما يطرح تساؤلات عن طبيعة الرجال الذين يتحلقون حول الرئيس، أو تلك الدائرة الضيقة من المخلصين الذين حافظوا للرجل على مقعد الرئيس حتى وهو يتقلب بين منتجعات جبال الألب السويسرية.
أين الاستقلال؟
كان معظم الحكام في إفريقيا يرفعون شعارات الاستقلال الوطني، لكن بعضهم كان يقع، مع ذلك، أسيرًا لنفوذ القوى الاستعمارية السابقة، وارتبط بقاؤهم في مقاعد الحكم بدعم خارجي، وصمت دولي مستمر على انتهاكات حقوق الإنسان.
تعرف شبكة النفوذ السياسي والاقتصادي والعلاقات العسكرية التي أقامتها فرنسا في مستعمراتها الإفريقية السابقة بأنها “فرنسا الإفريقية”، وتُعدّ علاقة فرنسا بالكاميرون أحد أقوى صور الارتباط بين فرنسا وإفريقيا.
برغم حصول الكاميرون على الاستقلال عام 1960، فإنه يُعتبر استقلالًا اسميًا، حيث كبلت فرنسا حكومة الرئيس “أحمدو أهيجو” باتفاقيات للتعاون العسكري والاقتصادي بعد الاستقلال مباشرة.
وقد كان “أهيجو” حليفًا طيعًا لفرنسا، حيث أسس نظامًا مركزيًا خضع للهيمنة الفرنسية في مختلف المجالات، وتلقى دعمًا كاملًا من باريس، وحافظ على ما يمكن اعتباره علاقات تبعية طوعية، رغم رفع شعار “السيادة الوطنية”. كما أبقت فرنسا قواعد عسكرية ومراكز تدريب في الكاميرون بعد الاستقلال، وتدخلت بهذه القوات مرارًا لدعم الحكومة ضد المعارضة والمتمردين، خاصة في غرب البلاد عندما وقع تمرد مسلح من قبل “الحركة الوطنية الكاميرونية” المعارضة.
دعمت فرنسا نظام “أهيجو” ضد المعارضة، لا سيما “حركة الاتحاد الشعبي الكاميروني” (UPC)، التي دفعت ثمنًا باهظًا لموقفها المناهض للنفوذ الفرنسي، فتعرّض قادتها للتصفية أو النفي.
من التبعية إلى الشراكة
في بداية حكم “بول بيا”، ظنّ البعض أن صفحة فرنسا ستُطوى، مع تقديم الرئيس الجديد خطابًا إصلاحيًا، لكنه اختار البقاء تحت المظلة الفرنسية التي منحت نظامه الشرعية، ودعمته في انتخابات مثيرة للجدل، غضّت فيها الطرف عن تجاوزات موثقة، مقابل ضمان استمرار مصالحها الحيوية.
حافظ “بول بيا” عندما تولى الحكم على النموذج الفرانكفوني، كما حاول الانفتاح على قوى أخرى مثل الصين وروسيا، لكن هذا لم يُغيّر من حقيقة أن فرنسا هي حليفته وشريكته الأكبر، وأنه رجلها الأول في الكاميرون، حيث تهيمن الشركات الفرنسية على قطاعات الطاقة والاتصالات والبنية التحتية والمياه، فيما ظل الفرنك الإفريقي (CFA) مرتبطًا بالاقتصاد الفرنسي، مما يُحجِّم الاستقلال الاقتصادي للكاميرون. وفي المقابل، فإن الحكومة الفرنسية ظلت تدعم نظام “بول بيا” رغم الانتقادات الشديدة للفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، إذ إن فرنسا، مثل باقي الدول الاستعمارية، تفضل الاستقرار على حساب الديمقراطية.
تهيمن الفرنسية كلغة رسمية على المجال العام في الكاميرون، رغم وجود مناطق تتحدث الإنجليزية، لكن المؤسسات التعليمية والثقافية الفرنسية ما تزال هي الأقوى حضورًا وأثرًا ونشاطًا، وما تزال تستقطب النخب السياسية والعسكرية، التي تترقى في سُلَّم الصعود كلما ارتبطت بالتعليم والتدريب في فرنسا.
الغضب المتصاعد
رغم هيمنة النخب المرتبطة بفرنسا على مواقع القيادة، فإن هناك تحديات أمام النفوذ الفرنسي، حيث يتصاعد الغضب الشعبي من فرنسا بسبب دعمها لنظام الحكم، الذي يتسم بالجمود، ولا يحظى بتأييد واسع، في ظل استمرار الاستبداد وتردي الأحوال المعيشية منذ عقود. وقد ظهرت حركات شبابية وأكاديمية تطالب بتفكيك نفوذ الاستعمار الجديد.
ومع استثمار الصين في البنية التحتية داخل الكاميرون دون شروط سياسية، وسط حضور روسي وتركي، فإن بقاء الكاميرون أسيرة للحالة الفرنسية وحدها بات محل شك كبير، رغم وجود شبكة معقدة من المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية مع فرنسا منذ الاستقلال.
نحو مراجعة العلاقة
العلاقة بين الكاميرون ومستعمرها السابق بدأت تدخل مرحلة مراجعة حذرة، وربما اضطرارية، وسط تغيرات إقليمية ودولية، وتململ شعبي متصاعد.
وتطالب قطاعات مجتمعية كبيرة بإعادة تعريف العلاقات مع فرنسا على أسس من الندية والاحترام، لا التبعية والهيمنة.
وبعد أن كانت باريس تستدعي رؤساء القارة إلى قصر “الإليزيه” كما يُستدعى الموظفون، باتت مضطرة اليوم إلى التفاوض، وأحيانًا إلى التنازل، مع تصاعد الشعور العام ضد فرنسا. ومع ذلك، فإن تخلص الأفارقة، وخصوصًا في الكاميرون، من النفوذ الفرنسي لن يكون سهلًا أو سريعًا، حيث تملك فرنسا أدوات ضغط ثقيلة، من العملة المرتبطة باليورو، إلى النخب المتفرنسة، مرورًا باتفاقيات التعاون الطويلة الأمد، وخيوط العلاقات السرية المتشابكة.
ولاية ثامنة!
في خضم الغضب الشعبي، ووجود نحو ثلث السكان تحت خط الفقر، وأسئلة حول مقدار التراجع في صورة “فرنسا الإفريقية”، وعن البدائل المتاحة، وحول قدرة الحكومة الكاميرونية على بناء سياسة خارجية واقتصاد بعيدًا عن فرنسا، تعلن الحكومة عن ترشح الرئيس “بول بيا”، 92 عامًا، لفترة رئاسة ثامنة، قد تنتهي وهو على مشارف سن المائة.
يلفت النظر تلك الثقة التي يتحدث بها الرئيس الهَرِم، حيث قال في منشور على منصة X: “اطمئنوا، تصميمي على خدمتكم يتناسب مع إلحاح التحديات التي نواجهها”.
وأضاف “بيا” أن قراره بالترشح لولاية ثامنة جاء بعد دعوات “كثيرة ومُلحّة” من أشخاص من جميع أنحاء الكاميرون ومن أبناء بلاده في الخارج.
ما لم يقله الرجل الطاعن في السن أن عقود عمره التي تزيد عن التسعين ليست مانعًا أمام ترشحه، فهو يؤمن أنه يجب أن تكون رئيسًا حتى مدخل القبر!