نسمع كثيراً تلك العبارات الرنّانة.. نهضة.. تنمية.. بناء.. تطوير.. وسرعان ما يتلاشى بريقها مع انتهاء الحديث فيها، بل ونتابع كثيراً من الدروس والمواعظ وحتى الدورات التدريبية وكلّها تحثّ على نهضة الأمَّة وضرورة التحول من السكون إلى الحركة ومن الرؤية إلى الإنجاز ومن التنظير إلى التنفيذ، وهذا كلام جميل يدغدغ العواطف ويشنف الآذان، لكن الأسئلة التي تتكرر دائما: كيف الطريق إلى النهضة؟ ما الخطوة الأولى للسير على طريق النهضة؟ ما الخطوات العملية للنهوض الحضاري؟

بالتأكيد لا تخلو الساحة من اجتهادات جادة ترسم الطريق وتضع القوانين نحو نهوض الأمَّة في مستوياتها المختلفة وبين شرائحها المتنوعة، لكن لو نظرنا إلى مشروع النهضة بشيء من التجزئة والتفصيل، فإنَّ كلّ النتائج ستقودنا إلى جوهر النهوض وأساسه وهو الإنسان، فأي تصور للتحرك في هذا الاتجاه لا بد من أن يمر بهذا الإنسان، وأقصد الأفراد لا الجماعات، فالفرد هو المكون الأولي للجماعة، والجماعة هي المكون الأساسي لأيّ أمَّة وبالتالي لأي حضارة، فكان البحث والتطوير والتنمية لصالح اللبنة الأساسية لأيّ مشروع نهضوي، هو الإنسان.
 
والحديث عن نوعية الخطوات للسير على طريق النهضة متفاوت ومتنوع بتفاوت اهتمامات الباحثين وأولويات المتخصصين، فالتربوي يرى أن أولى خطوات النهضة تكمن في التربية بكافة أشكالها، والسياسي يرى أن النهضة تكمن في بناء المؤسسات السيادية وإنشاء آليات الرقابة والمحاسبة، وهكذا يتم تحديد خطوات النهضة بناء على الميول والرغبة والتخصص.
 
لكن بشيء من التفكير الدقيق يتبيَّن للباحث والمتخصّص أنَّ الخطوات العملية لتأسيس مشروع النهوض الحضاري بالأمَّة يكمن في إيجاد القاسم المشترك بين مختلف التخصّصات والاتجاهات، وهنا أتحدّث عن التخطيط بشكل عام وعن التخطيط الاستراتيجي الشخصي بشكل خاص.
 
فأولى خطوات النهوض بهذا الإنسان يكون بوضعه على طريق العمل والإنجاز من خلال امتلاكه مهارة التخطيط بعيد المدى المتمثل بالتخطيط الاستراتيجي الشخصي، لذلك سأعرض مفهوم التخطيط الاستراتيجي وفوائده ورسم خطوات التخطيط الناجح وخطوات التنفيذ السليم ضمن النقاط التالية:
 
أولاً: مفهوم التخطيط الاستراتيجي الشخصي:
يقصد بالتخطيط الاستراتيجي الشخصي هو: تصميم المستقبل المشرق في الذهن ووضع الخطوات الفعالة لتحقيقه بحيث تشتمل على رؤية ورسالة متصفة بالمدى البعيد المتراوح بين 3-10 سنوات وتتصف أيضاً بأهمية الأهداف المقصودة مع قدرة على إدارة الضغوط والمنافسة، وكل ذلك يكون بحسن المتوقع.
ثانياً: أهمية التخطيط الاستراتيجي الشخصي:
يقول المثل: إذا لم تكن لك خطة، فأنت ضمن خطة الآخرين، لأنك تسير وفق ما يخططه لك الآخرون لا وفق ما ترغبه وتريده، وكان الخطاب الإلهي واضحاً في التمييز بين المنظم والفوضوي، قال تعالى: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، ويمكن تحديد أهمية التخطيط من خلال الفوائد التالية:
·         التخطيط يحدّد لك الاتجاه الذي يجب أن تسيره، وهو ما يوفر الكثير من الوقت وينظم حياة الإنسان.
·         ينسق المجهودات الكثيرة، بحيث يصقلها في مشاريع محددة تنبع من انتماء الإنسان وتتوافق مع هويته.
·         بالتخطيط تتضح معالم الطريق للإنسان ومحطات التحول في حياته، من خلال اكتشاف الواقع وتحديد الخطوات الأساسية للانتقال للأهداف المستقبلية.
·         والتخطيط يساعد الإنسان على تحفيز ذاته وتحفيز الآخرين، فبالتالي يؤدّي ذلك إلى زيادة الإنتاجية على مستوى الأفراد والمؤسسات.
ثالثاً: لماذا لا يخطّط الناس؟
للوقوف على إجابة هذا السؤال؛ لابد من استعراض النقاط التالية:
·         انعدام المعرفة؛ فكثير من الذين يمتنعون عن التخطيط يكون سببه نابع من عدم المعرفة بوسائل التخطيط وآلياته، وهذا الصنف يسهل التعامل معه لأن الذي لا يعلم يمكن تعليمه وتدريبه.
·         عدم القناعة؛ وهذا يتذرع به عدد لا بأس به من الناس، وحجتهم أن الحياة تسير سواء خططنا أم لا، وهذه قناعة يتلحفون بها للامتناع عن التخطيط، وهذا الصنف يحتاج إلى جهد أكبر من الصنف السابق بسبب الدخول في مناقشة الأفكار لتغيير القناعات من خلال الحوار والمناقشة وأحياناً من خلال التجربة العملية.
·         الغرور أو التعالي، فالإيجابية عنصر أساسي من عناصر التخطيط الناجح لكن حين يفرط فيها البعض تبرز المشكلة، لأنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى الوقوع في شباك الغرور والعُجْب وهو ما يؤدي إلى الامتناع عن التخطيط، والتعامل مع هذا الصنف فيه من المشقة والجهد ما يفوق الصنفين السابقين، لأنّه بالإضافة إلى ما سبق من إجراءات قد نحتاج للتعامل مع هذا الصنف من الناس إلى الاستعانة بأخصائيين نفسيين وتربويين لحل هذه المشكلة.
·         السلبية: وهذا الصنف من الناس يُعدّ من أوسع الأصناف من حيث العدد، خاصةً في منطقتنا العربية ويرجع ذلك إلى كثير من الأسباب السياسية والاقتصادية والعلمية، ومعالجة هذا الصنف من الناس غير مستحيل إلاّ أنّه تعتريه أشكال من الصعوبات وبذل المجهودات المتنوعة لحل الأسباب المتعددة التي تؤدي إلى هذه السلبية وتمنع الناس من التخطيط.
بناءً على ما سبق؛ يمكن اعتبار أنَّ الناس لا يخطّطون بسبب وجودهم ضمن التصورات السابقة ومعرفة ذلك يضعنا على أول طريق حل المشكلة ومعالجة الأزمة.
————————————————————————————
المصدر : بصائر تربوية