المصدر : إخوان ويكي

بقلم :د. عبد الخالق فاروق ومحمد فرج

الانتماء قبل عام 1952: لمحة عامة

تبلورت مشاعر الانتماء الوطني فى مصر والعالم العربي فى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين فى ظل مواجهة حادة مع الحملات الاستعمارية الأوربية الفرنسية والبريطانية وتجسدت بشكل جلي فى ثورتي القاهرة الأولى والثانية ؛

كما بلغت إحدى قممها فى الثورة العرابية وعكست التجسدات الفكرية والثقافية فى ذلك الوقت شكلا من أشكال البلورة الفكرية لمشاعر الانتماء فى المجتمع المصري ، كما وجد ذلك التجسد والتبلور استمراره فى التيار الفكري للحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل و محمد فريد بعد ذلك .

وكانت ثورة الجماهير المصرية فى عام 1919 ، ثم ثورات العمال والطلبة فى الثلاثينات والأربعينات التي بلغت قمة تجسدها فى اللجنة الوطنية للعمال والطلبة ، ثم الكفاح المسلح ضد ثكنات جيش الاحتلال البريطاني عام 1951 .. الخ.

تعبيرا عن نقله كيفية جديدة تبلورت فى إطارها التجسدات الجديدة لمشاعر الانتماء للوطن فى مصر .وقد انعكست هذه النقلة الكيفية الجديدة من ذلك التبلور الصريح للنمو الرأسمالي فى المجتمع المصر ، خاصة فيما بين الحربين الأولى والثانية العالميتين كما عكس ذلك النمو الرأسمالي نفسه فى مظاهر من التمايز الطبقي اتخذت أشكالا حزبية ونقابية وجماعات ثقافية فصاغ بذلك أرضا جديدة اجتماعية لانطلاق مشاعر الانتماء للوطن.

وكان معنى ذلك أن مشاعر الانتماء الوطني المعادية للاستعمار بين جماهير مصر فى ذلك الحين وهى أعمق وأوسع من مجرد التجسدات الفكرية للوعي القومي قد بدأت تكتسب أبعادها الطبقية الاجتماعية التي انبثقت منها كافة التجسدات الفكرية والسياسية التي تنازعت الواقع المصري فى ذلك الحين وإن كانت قد ظلت محاصرة بدرجة التطور التي كان يمر بها المجتمع المصري..

أي بظروف وعلاقات فترة انتقالية تتمثل فى درجة النمو الرأسمالي فى مجتمع مستعمر كما كانت بالتالي خاضعة للسيادة الفكرية والسياسية لبرجوازية ناشئة ترتبط بأعمق الروابط بكبار ملاك الأراضي ، ولكنها نشأت في ظل وجود الإحلال الأجنبي الذي يعرقل تطورها ونموها المستقل فتنازعها الرغبة فى الاستقلال بالسوق والسلطة وخشية الجماهير التي تتصاعد حركتها فى نفس الوقت .

وقد قام هذان القطبان اللذان يتنازعان البرجوازية المصرية بصياغة الملامح العامة لسلوكها الوطني تجاه القوى الاستعمارية فأكسبها هذا السلوك ملامحه التهادنية الإصلاحية التي تتعلق بأوهام الاستقلال باللعب على التناقضات الدولية واستبعاد حركة الجماهير وشل تنظيماتها .

ودخلت البرجوازية المصرية فى ذلك الوقت فى تناقض حاد داخل دائرة الاستقلال والتبعية ، كان من نتيجته فشل الأحزاب البرجوازية قبل 1952 فى حل المسألة الوطنية المحتدمة لصالح الاستقلال .

وانعكس ذلك بالضرورة على مشاعر الانتماء القومي بين جماهير السكان فى مصر ، بصورة أدت إلى تنامي الوعي بالانتماء الطبقي داخل دائرة الوعي بالانتماء القومي المعادى للاستعمار .وقد بدا ذلك واضحا فى تنامي الأطروحات الاجتماعية كالإصلاح الزراعي مثلا وتنامي الأفكار الثورية البرجوازية الصغيرة والعمالية .

وقد ساهم هامش الديمقراطية ونظام الأحزاب فى التنامي رغم قيود الوجود الإستعمارى وفزع البرجوازية المصرية من حركة الجماهير ، وقيود الحكم الملكي علىالديمقراطية الليبرالية نفسها فى ذلك الوقت .

وعلى قاعدة من هذه الأرض الموضوعية كانت حركة الجيش المصر فى يوليو 1952 بعد ما يقرب من أربعة أعوام على حرب فلسطين وشهور قليلة على حريقالقاهرة .

وتنتمي ثورة الجيش في يوليو 1952 على تلك الدرجة التي وصلت إليها مشاعر الانتماء الوطني المعادى للاستعمار فى مصر بكل ما يحيط بهذه المشاعر من فشل برجوازي متمثل فى سلوك الأحزاب البرجوازية القديمة وبكل ما يدعم هذه المشاعر من وعى اجتماعي وليد؛

ومعنى ذلك أن فكر قادة يوليو الذي تجسد فى البداية فى الشعارات ذات النقاط الست كان تعبيرا عاما عن درجة النمو التي بلغتها قدرة الطبقات الاجتماعية ومنظماتها السياسية والفكرية والتي لم تكن بقادرة على حسم الصراع الإجتماعى والسياسي بصورة نهائية لصالح إحداهما .

ومن الناحية التاريخية فإن حركة الجيش فى يوليو 1952 رغم أنها كانت فى أحد جوانبها نتاجا لأزمة البرجوازية المصرية (العاجزة عن حل قضية الجلاء) فإنها قد قامت بحل أزمة البرجوازية وقامت فى نفس الوقت بعرقلة حركة الجماهير التي كانت آخذة فى التبلور والنمو بقيامها بكبح مظاهرا لوعى الطبقي المستقل التي كانت تكسب مشاعر الانتماء للوطن أبعادها الاجتماعية العميقة .

إن الدرجة التي كانت تصنع حالة الغليان فى المجتمع المصري ، والناتجة من حدود العلاقات الاجتماعية والحركة السياسية فى البلاد ودرجة النفوذ أو العزلة للأفكار التي كانت تتنازع المجتمع كانت لابد أن تطبع حركة انقلابية بالطابع الذي أفرزها وولدها أي الطابع البرجوازي الذي حدد سلوكها السياسي والفكري تجاه طبقات المجتمع .

ولكن هذا الوضع التاريخي نفسه كان قد أكسب ثورة يوليو كحلقة خاصة بسلطتهم وضعا " بونابرتيا " يكاد يقف فوق الطبقات الاجتماعية يوجه النضال نحوها جميعا بدء بكبار ملاك الأرض وانتهاء بالطبقة العاملة وتجسد وعيها الفكري والسياسي .

إن سمة هامة من سمات وانتماءات وعلاقات الكوكبة التحى قادت حركة الجيش فى يوليو 1952 قد ساهمت فى إحاطة وضع السلطة الجديدة بملامحه البونابرتية الخاصة .

فقادة يوليو الذين ينتمون فى معظمهم إلى أصول برجوازية صغيرة والذين كانت وسيلتهم فى الثورة على النظام القديم تتمثل فى الانقلاب العسكري ولا تعتمد على حزب جماهيري ثوري ، لا يرتبطون بوشائج عميقة بأفراد الطبقة البرجوازية ولا بتجسداتها السياسية (حزب الوفد على سبيل المثال)

ولكنهم فى نفس الوقت كان لا يمكنهم تمثل حركة البرجوازية الصغيرة الثورية لظروف موضوعية عميقة تجعلهم فى نفس الوقت يمثلون إحدى حلقات الثورة البرجوازية فى مصر ويعبرون بالتالي عن الأهداف الأساسية للبرجوازية المصرية التي كانت قد نمت وتمحورت أهدافها حول الاستقلال بالسوق والسلطة .

لقد مكنت تلك السمة المذكورة الانقلاب العسكري وعدم الارتباط بأفراد الطبقة البرجوازية سلطة يوليو من اكتساب نوع من الاستقلال النسبي وتحررها من الارتباط بالبرامج التنفيذية والتوجهات السياسية المباشرة للطبقة البرجوازية الكبيرة .

ٍوقد عكس هذا الاستقلال النسبي لسلطة يوليو نفسه على مجمل سلوكها التالي وخاصة بعد انتهاء الغزو الثلاثة لمصر وتأميم شركة قناة السويس وخلق أوضاعا طبقية وسياسية جديدة كان لها أعظم الأثر على مشاعر الانتماء فى مصر .

الانتماء فى عهد جمال عبد الناصر

مما لا شك فيه أن النجاحات المبكرة لثورة يوليو كان لها أعظم الأثر على مشاعر الانتماء بين جماهير مصر فإحساس عارم بالكرامة الوطنية ، وبحب الوطن قد تفجر لنجاح كوكبة يوليو فى الاستيلاء على السلطة وطرد الملك ثم توزيع بعض أراضى الإصلاح الزراعي على الفلاحين والمعدمين وقد عبر هذا الإحساس عن نفسه أثناء الغزو الثلاثي لمصر حيث الرغبة الحقيقية الجارفة بين الجماهير فى فداء الوطن ببذل الدماء .

وقد ساهم وجود إسرائيل كرأس حربة للاستعمار من إحدى الزوايا وسقوط سلطة يوليو تجاه طبقات العمال بإخراج مظاهراتها بهدف حل أزمة الحكم فى مارس1954 وإلغاء نظام تعدد الأحزاب ، كانت فى مجملها عناصر مبكرة جدا تضرب بعمق فى الأعماق الاجتماعية لمشاعر الانتماء للوطن وتدفع بها داخل دائرة المفهوم البرجوازي.

وساهم الخطر الصهيوني فى الدفع نحو هذا الاتجاه ليسيد من مفهوم السلطة للشعور بالانتماء من خلال وحدة وطنية لا طبقية تتصدى للخطر الخارجي .

وتكلفت الظروف الموضوعية بعد حرب 1956 بإنجاح ذلك المفهوم وترسيخه بين جماهير السكان فقد أفرزت إجراءات سلطة يوليو الأساسية ، الإصلاح الزراعي الأول وعمليات التمصير ثم التأميم ، فئة طبقية جديدة تكونت لها مصالح برجوازية خاصة بها لتستمدها من سيطرتها على السلطة السياسية بعد أن أصبح فى حوزتها ثروة عامة تكونت من السيطرة على الأرض التي لم توزع وبنوك المال الأساسية التي مصرت وحصة الأجانب فى عدد من الشركات الصناعية والزراعية ثم هذه المصانع والشركات نفسها بعد تأميمها مع المجموعة الرأسمالية لبنك مصر بعد ذلك .

وقد أصبحت هذه الفئة الطبقية البرجوازية ذات قوة وباس شديدين على مستوى السيطرة السياسية والاقتصادية وجدير بالذكر أن القوة السياسية لتلك الفئة لم تكن لتستمد من أنى تنظيم سياسي الإتحاد القومي أو الإتحاد الإشتراكى مثلا بقدر ما كانت تستمد من السلطة وأجهزتها مباشرة ومدعومة بتعاطف جماهيري واسع .

وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن هذه الفئة الجديدة الحاكمة لم تصنع سطوتها السياسية على المجتمع وسيطرتها السياسية على الجماهير بالقمع البوليسي وحده وإن كان ذلك القمع قد قام بدور لا يمكن إنكاره فى تدجين مشاعر الانتماء ومفاقمة الانكفاء على الذات بعد ذلك .

إن الظروف التي تشكلت فيها تلك الفئة البرجوازية الجديدة بما صاحبها من إجراءات اجتماعية هي التي صاغت إمكانيات النجاح النسبي فى صياغة مشاعر الانتماء وفق ما تبتغى وما تريد .

فلم تلجأ هذه الفئة ومفكروها إلى انتهاج أسلوب الوعظ الأخلاقي لصياغة وجدان الإنسان المصري بقدر ما كانت الظروف الموضوعية تقوم بنفسها بذلك الوعظ وإن كانت السلطة قد صاحبت الإجراءات الاجتماعية بضجيج (اشتراكي) على الصوت .

لقد نجحت السلطة الجديدة فى استثمار نهوض الوعي القومي الذي نما فى مواجهة الاستعمار البريطاني قبل عام 1952 ثم ازدهار هذا الوعي بعد حرب 1956 بعد أن خلصته من مقومات الوعي الطبقي المستقل الذي كان قد بدأ ينمو أيضا قبل عام 1952 .

ولعل ذلك النجاح فى استثمار نهوض الوعي القومي وإنهاضه بعكس التقاء تلك الحاجة الموضوعية لدى تلك الفئة الجديدة الصاعدة التي تبتغى بناء قاعدة صناعية قوية مع الحاجة الجماهيرية التحى تمثل طموحها الأعمق فى الاستقلال فأفرزت الأفكار الموجهة التي حركت المجتمع فى ذلك الوقت .

وقد قامت الإمبريالية بشروطها المجحفة لبناء السد العلى على سبيل المثال وإسرائيل الصهيونية بتحرشاتها التي تذكر بخطر وجودها بدور عميق فى بلورة ملامح جديدة فى وعى تلك الفئة البرجوازية الجديدة؛

كما قامت البرجوازية التقليدية بتخلفها وهامشيتها وخشيتها من المشاركة فى البرامج الاقتصادية للسلطة الجديدة بدفع تلك الفئة خطوات هامة باتجاه التبلور الذي يحدد موقفها من الذات ومن الطبقات الأخرى .وكانت التأميمات الكبرى عام 1961 تعبيرا عن درجة عليا من درجات التبلور الطبقي لتلك الفئة الجديدة المرتكزة على سلطة الدولة .

وبينما قامت الإجراءات المبكرة لسلطة يوليو خاصة تأميم قناة السويس وخروج الثالوث الاستعمار بعد غزو 1956 بصنع شعبية واسعة للسلطة الجديدة ولعبد الناصر بصفة خاصة قامت تأميمات 1961بما صاحبها من حديث واسع عن " التحول الإشتراكى " بتمكين الفئة البرجوازية الجديدة من " مظاهر الصراع الطبقي " فى البلاد وبالتالي كبح إمكانيات نمو الوعي المستقل بالإنماء الطبق فى مصر .

فقد قامت تلك الإجراءات بتمكين الفئة الجديدة من جر مجمل طبقات المجتمع خلفها بعد أن تمكنت من تدشين جداراتها الخاصة فى قيادة المجتمع نحو ما أسمته بالحل(الإشتراكى) .كما قامت تلك الإجراءات فى ارتباطها مع النسق الذي أحدثته الإجراءات السابقة بدء من الإصلاح الزراعي .. الخ.

بعملية جذب واسعة للتيارات الفكرية التقدمية نحو الفكر البرجوازي الذي عبر عن نفسه وعن طبقته الجديدة بشعارات سياسية براقة .كما قامت تلك التيارات التقدمية بدورها التالي وبطريقة جدلية فى إكساب تلك الشعارات السياسية أبعادا خاصة .

وبالطبع فقد أفرز تسلسل الإجراءات الاجتماعية والسياسية التي اتخذتها سلطة يوليو ظواهر اجتماعية هامة فقد قامت تلك الإجراءات بتوسيع قاعدة الطبقة العاملة الصناعية توافقا مع التوسع الذي حدث مع البناء الجديد ، وكان ذلك من شأنه أن يعطى ملامح جديدة للطبقة العاملة المصرية وهى ملامح من أبرزها الحداثة التي تمثلها تلك القطاعات الجديدة التي انضمت لصفوف الطبقة العاملة بملامحها الفلاحية.

ومن زاوية أساسية تنتمي تلك القطاعات الجديدة إلى تراث النضال العمالي النقابي والسياسي السابق على ثورة 1952 بقدر ما كانت تنتمي إلى نظام يوليو الذى نقلها من العمل فى الريف إلى العمل فى المدينة بأجر ثابت يخلفه استقرار قوانين العمل والأجور التي سنتها السلطة الجديدة.ٍ

وفى الريف كان لتوزيع أراضى الإصلاح الزراعي أثر لا ينكر كذلك فقد كان للتسويق التعاوني ونشر الجمعيات الزراعية التي يدخل مجلس إدارتها لعقد الإيجار الثابت بين المؤجر والمستأجر وتحديده لقيمة إيجار الفدان بسبعة أمثال الضريبة وكذلك إقامة المدارس ، والحديث الواسع عن مجانية التعليم ، وإقامة صهاريج المياه النقية .. الخ .

أثرة فى خلق أشكال واسعة من الالتفاف حول سلطة الفئة الجدية والاستجابة لتوجهاتها الوطنية والاجتماعية.وفى صفوف البرجوازية الصغيرة المثقفة فى الريف والمدينة خلقت إمكانيات الصعود الطبقي المرتكزة على الالتزام بتعيين الخريجين وقوانين الترقي فى الوظائف الحكومية وشركات القطاع العام أشكالا من الالتفاف حول تلك السلطة الجديدة .

وقد مكنت هذه الأوضاع الجديدة هذه الفئة من النجاح فى جذب أوسع السكان للالتفاف حول شعاراتها السياسية التي كانت لا تزال تحمل مضمونا تقدميا لمواجهة الإستعمار والطبقات القديمة .

وقد صاغ ذلك المناخ مشاعر الانتماء فى ذلك الوقت فخلق جماهير قومية تنتمي إلى ثورة يوليو .وقد تعلم الشباب أنهم جيل يوليو ، جيل مجانية التعليم ومواجهة الاستعمار أنهم بشكل أكثر جلاء جيل عبد الناصر كما كان يقال .

إن الانتماء الوطني كان يتخذ بسرعة مظاهر الانتماء إلى حاكم بطل صنعت منه الظروف التاريخية ودرجة التطور التاريخي فى المجتمع المصري والعربي فى معظم الأحيان تجسيدا للوعي القومي وللأماني القومية فى ذلك الوقت .

ولعل ذلك المظهر الذي اتخذته مشاعر الانتماء ظل يمثل من زاوية أخرى الثغرة التي كشفت عن نفسها بعد ذلك لإمكانيات الانتكاس بمشاعر الإنماء فى البلاد .فقد كان ذلك المظهر لا ينبئ عن انتماء حقيقي ينمو بقدر ما كان ينبئ عن مشاعر انتماء مختلطة بتشوهات عميقة من الجائز أن تكون لها جذورا فرعونية تخلق انتماء ينتكس .

ولقد ساهم نظام يوليو نفسه فى صياغة تشوهات الانتماء للوطن .فمشاعر الانتماء للثورة والزعيم والتي كانت تخلق جماهيريا قومية فى مظهرها العام كانت مختلطة بمشاعر من الرعب والخوف والتفتيت .

إن الشكل العام لحركة المجتمع فى ذلك الوقت كان يبدو وكأنه يعبر عن وحدة واحدة متماسكة بصلابة كما كانت مشاعر الانتماء للثورة والزعيم تبدو أيضا مشاعر جماعية متضافرة تخرج من الحناجر فى هتافات الفداء بالروح والدم؛

ولكن الصورة فى عمقها كانت تختلط بها ظلال أخرى متعددة الألوان تفتح ثغرات تلك الوحدة المتماسكة وتلك المشاعر الجماعية وتختلط بالرعب الزى يعكس نوازع الشك تجاه الآخرين كالسوس فى أى وحدة ويجنح بالعناصر النشطة في المجتمع نحو الصمت إما إحباطا أو اغترابا أو إيثارا للسلامة أو نتيجة لقرارات العزل السياسي والاعتقال .

ولذلك فإن مظاهر التبلور الطبقي التي سبقت ثورة يوليو وتجسدت فى تيارات فكرية وتحركات سياسية ونقابية ظلت ماثلة فى ذهن السلطة العسكرية الجديدة وتجسدت فى سلوكها وعلاقتها مع الجماهير؛

وكما كان استبدال حركة الجماهير المستقلة المنظمة وإبداعاتها المتمثلة باللعب على التناقضات الدولية بين إمبريالية وأخرى ملمحا من ملامح الحركة السياسية البرجوازية المصرية وكان استبدال تنظيم حركة الجماهير باستثمار التناقض بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي ملمحا من ملامح الحركة لسياسية للسلطة الجديدة .

ولذلك كانت المواجهة العنيفة لأي بادرة مستقلة للجماهير ولأي تيار فكرى يطمح فى البقاء مستقلا بحركته السياسية (وهى ما شهده عدد ليس بقليل من برجوازيات العالم الثالث وبخاصة فى المنطقة العربية) .

وقد تركت المواجهة العنيفة بين السلطة المصرية وكل من تجسدات لفكر الماركسي وتيار الإخوان المسلمين فى مدن وريف مصر بالملاحقة والاعتقال والتفتيش الهمجي بحجة البحث عن السلاح آثارا حادة من الرعب الذي يكمن فى النفس البشرية .

كما كان لاستبدال أية منظمات جماهيرية مستقلة بمنظمات مصنوعة فارغة المضمون ومنتمية مباشرة للأجهزة البوليسية التي يتقلد رجالها بحكم الوظيفة أعلى المناصب السياسية والتنظيمية و الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي مثالان مشهوران أثار وخيمة على أية إمكانية لتنظيم حقيقي لحركة الجماهير فى المجتمع وبالتالي على أية إمكانية لتطوير مشاعر الانتماء الجماعي للوطن .

والمثال البارز فى تلك الوجهة تمثل فى الدور الذي أنيط به للنقابات المهنية ونقابات العمال بشكل خاص . فقد قامت السلطة بأسلوب محكم بخلق تبعية تلك النقابات لأجهزتها السياسية والبوليسية بشكل أساسي ، ومناجل ذلك قامت بخلق أرستقراطية عمالية نقابية مرتبطة بمصالح السلطة أكثر من ارتباطها بمصالح الطبقة العمالية ، وكرست ذلك باشتراط عضوية النقابات للإتحاد الإشتراكى العربي وبعمليات التدخل فى الانتخابات بالشطب والاستبعاد والتعيين .. الخ .

وبالطبع فقد ضرب هذا السلوك باتجاه خلق انتماء ارستقراطي نقابي للسلطة وباتجاه عرقلة أية بادرة لنمو انتماء عمالي للطبقة العاملة بعد أن كان فكرها الثوري غائبا بين المثقفين الذين جذبهم التيار الفكري الجارف للسلطة الجديدة .

لقد ضربت تلك العلاقات بين السلطة والناس بكل قوة فى استقلال حركة الطبقات الاجتماعية وكرست وجودا للشعب المصري يتساوى مع عملية الجمع الحسابي للأفراد المفصلين .

ومعنى ذلك أن مشاعر الانتماء للوطن ، كانت قد أصبحت مشاعر للانتماء للسلطة الزعيم أو "الوطن الزعيم" وكانت أيضا قد فرغت من أية انتماءات طبقية من مشاعر الانتماء للوطن .

كما كانت ههذ المشاعر نفسها مختلطة مع مشاعر الخوف والشك فى الآخرين داخل دائرة شريرة من الحس البوليسي بفعل الجدران .. التحى أصبح لها أذان .

ومن المؤكد أنتلك الإختلاطات للمشاعر كانت مختفية خلف الإنجازات التقدمية للسلطة الناصرية ، ولم تفصح عن نفسها فى ذلك الوقت فى أشكال من الفعل ورد الفعل الصريح .

ولكن دلالة ذلك تمثلت فى أن الإنسان المصري الذي كان قد بدأ يصبح إنسانا سياسيا فاعلا قبل 1952 كف عن أن يكون كذلك بعد الثورة فقد أصبح يكره السياسةويمقتها وترتعد فرائصه لمجرد ذكر اسمها أنه يريد أن يأكل خبزا والسياسة لا تطعم ولا تغنى من جوع بل أصبحت تترادف مع الرحيل خلف الشمس .

ولعل هذه الحالة بالذات ظلت تعبر عن نفسها فى عقل المواطن المصري وحركته الآن لتستكمل نفسها بملامح عصرية جديدة .

ومعنى ذلك أن الانتماء السياسي الحر كتعبير عن الانتماءات الطبقية والوطنية لم يكن ملمحا بارزا للإنسان المصري العامي فى عهد عبد الناصر رغم أن عضويته فى الإتحاد الإشتراكى