المصدر : إخوان ويكي 

الجزء الأول: مفهوم العدالة الإجتماعية

المقدمة

العدالة الإجتماعية من المبادئ الإنسانية العريقة التي يمتد وجودها إلى قِدَم عمر البشرية، فمنذ الفجر الأول للتاريخ وبداية الخلقة عرفتها البشرية بوصفها حاجة متأصلة في أعماق الوجود الإنساني فقبلتها وأذعنت لها وجعلتها اللبنة الأساسية لقوانينها وقضائها. وليس هناك من شيء أشد وقعاً على الفطرة البشرية وإثارة لنفرتها وكراهيتها، كهضم الحقوق التي يعاني منه الضعفاء والمظلومون، وليس هناك ما يخلّف العداوة والبغضاء في القلوب أشدّ من الظلم ومناوأة العدل.

إنّ افتقار المجتمع للعدالة كان -على الدوام- السبب الذي أدى إلى وقوع أغلب الثورات، ولذلك تزعّم جميع مصلحي التاريخ وقادة التحرر حركاتهم الإصلاحية مستهدفين إقامة العدل والقسط، والقضاء على كافة أشكال التمييز والظلم.

فتلقت الأُمم والشعوب تلك الدعوات الإصلاحية بكامل الرضا والقبول، فقد كانت متعطشة للعدالة مؤتمرة بأوامر أُولئك المصلحين، متطلعة لتحقيق هذا الهدف الإنساني النبيل الذي هو ضالة الفطرة السليمة.

والأهم من كل ذلك أنّ العدالة تمثّل هدفاً دينياً ربانياً كان يشكّل محور رسالات الأنبياء، الذين ضحوا بالغالي والنفيس ولم يبخلوا بأرواحهم في سبيل تحقّق العدالة ونشرها بين أوساط الأُمة.

وكانت العدالة الإجتماعية أحد أهم العوامل التي قامت عليها ثورة 25 يناير فالمؤكد أن المتجمع المصري خلال الثلاثين عاماً الأخيرة كان هناك تفاوت طبقي واسع واشتدت الهوة بين طبقات المجتمع المصري خاصة خلال العشر سنوات الأخيرة فكان شعار الثورة المصرية (عيش – حرية – عدالة إجتماعية) والملاحظ أيضاً أن أحد أهداف ثورة 1952 كان إسقاط الإقطاع فالشاهد الرئيسي أن العدالة الإجتماعية هي أحد محركات الشعوب للثورات والإصلاح وهذا ما تبنته جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها على يد الإمام البنا عام 1928 فكان لها دور خدمي واجتماعي على نطاق واسع وبالرغم من الاتهامات العديدة التي طالت الجماعة بعدم انحيازها للفقراء إلا أن التاريخ والواقع يثبت غير ذلك تماماً فالإمام البنا كان من أوائل من دعا إلى تطبيق مبدأ العدالة الإجتماعية وكذلك البرامج الانتخابية المتعاقبة للإخوان والأدبيات المختلفة التي كانت تركز وباستمرار على المطالبة والسعي لتحقيق العدالة الإجتماعية وهذا ما سنحاول تأصيله من خلال هذا البحث وسيكون منهج البحث هو تأصيل لمفهوم العدالة الإجتماعية بداية لدى الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي ثم التأصيل لرؤية ومنهجالإخوان في التعامل مع العدالة الإجتماعية .

مفهوم العدالة

اتفق معظم اللّغويون بشأن «العدل» على أَنّه يعني المساواة والتكافؤ. وقالوا بأنّ «العَدل» و«العِدل» مفردتان مترادفتان في المعنى، غير أنّ «العَدل» يختص بالأشياء التي يدرك تساويها بالبصيرة، في حين يستعمل «العِدل» في مجال تلك الأمور التي يدرك تساويها عن طريق الحس. والعَدل هو المساواة في الجزاء، والإحسان مضاعفة الثواب (1) .

قال ابن فارس: العين والدال واللام أصلان صحيحان، لكنهما متقابلان كالمتضادين: أحدهما يدل على استواء، والآخر يدلّ على اعوجاج.

والتعبير الأوّل: العَدْل من الناس، أَي الشخص ذو النهج المستقيم المرضي عند الناس المستوي الطريقة، يقال هذا عَدلٌ، وجمعه «عدول». والعَدِل الحكم بالاستواء، والعَدل: نقيض الظلم والجور.

التعبير الثاني: بمعنى الاعوجاج والانحراف، عَدَل، وانعدلَ، أي انفرج (2) .

كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبَّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ (3) .

والعدالة في الشريعة تمثّل الاستقامة على الحق وغلبة العقل للهوى، أمّا العدالة عند الفقهاء فهي اجتناب كبائر الذنوب وعدم الإصرار على صغائرها ورعاية التقوى وملازمتها وترك المحرمات وفعل الواجبات، والابتعاد عن الأفعال الوضعية، ويصطلحون على ذلك بملكة العدالة (4) . أمّا المفكرون والحكماء والفلاسفة فلهم تعاريف مختلفة للعدالة، وهذا ناشئ من اختلاف الظروف التي كانت تسود المجتمعات والتي تحكم ذهنيات الأفراد. فقد كان للفلاسفة والحكماء إبان القرون الوسطى -مثلاً- عناية وأهمية فائقة بالطبيعة وتأثيرها على الأفراد والحكومات، الأمر الذي جعلهم يذهبون إلى أنّ العدالة تمثل السلوك الذي ينسجم والطبيعة ورعاية الحقوق الطبيعية.

فيرى هؤلاء الفلاسفة أنّ العدالة عبارة عن مبدأ مثالي، أو طبيعي، أو توافقي يتكفّل بتعيين الحق، ويوجب الإقرار به ورعايته عمليًّا (5) .

ولذلك يعتقد أرسطو بأنّ العدالة بمعناها العام إنّما تشمل جميع الفضائل، أمّا بمعناها الخاص، فهي فضيلة يتحتم بموجبها إعطاء كل فرد حقه. ثم أضاف الحقوقي الرومي «سيشرون» هذه العبارة- لذلك التعريف- وهي: «شريطة ألاّ تضرّ بالمصالح العامّة».

وقد عدّ الحقوقيون وحكماء الغرب تعريف أَرسطو مع عبارة سيشرون المكملة له من أنجح التعاريف التي ساقها الفلاسفة حول مفهوم العدالة (6) .

أفلاطون بدوره يرى أنّ العدالة وشيجة تؤدّي لالتحام أفراد المجتمع أو وحدتهم من أجل الانسجام والتنسيق (7) .

وقد أُضيف لمعنى العدالة في عصر النهضة: «ضمان مصالح الآخرين، وقيل بأنّ العدالة الإجتماعية تعني احترام حقوق الآخرين وإعطاء كل ذي حق حقه»(8) .

وقد وردت مثل هذه التعاريف في كلمات العلماء والمفكرين الإسلاميين أيضاً.

فقد عرّفها الطبرسي بأنّها تعني مماثلة الشيء لنفسه، أي المساواة، فقال: «هو(العدل) مثل الشيء من جنسه...» (9) .

أمّا ابن أبي الحديد فهو يعتقد بأنّ العدالة خلق متوسط بين الإفراط والتفريط فيقول: «العدالة هي الخلق المتوسط، وهو محمود بين مذمومين، فالشجاعة محفوفة بالتهور والجبن، والجود بالشح والتبذير... وعلى هذا كل ضدين من الأخلاق فبينهما خلق متوسط، وهو المسمى بالعدالة...» (10) .

وصرح الشيخ الأنصاري بأنّ العدالة تعني الثبات والاستقامة (11) ، وذكرها العلاّمة الطباطبائي قائلاً:

«العدالة هي المساواة والموازنة بين الأُمور بحيث يحصل كل على استحقاقه» (12) .

وقال في موضع آخر: «العدالة هي الحالة الوسطى بين الإفراط والتفريط» (13) .

الشهيد المطهري عرفها قائلاً: «العدالة تعني إعطاء حق كل ذي حق وعدم الاعتداء على حقه» (14) .

طبعاً فصل الخطاب -والأهم من كل ما ذكر- قول الإمام علي (عليه السلام) بأنّ العدالة إعطاء كل ذي حق حقه. فيقول (عليه السلام): «الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه» (15) .

ثم وصفها في موضع آخر بأنها الإنصاف والاعتدال والابتعاد عن الإفراط والتفريط، و«وضع الأشياء مواضعها» (16) .

 

العدالة الإجتماعية .. رؤية فلسفية

منذ بزوغ فجر الخليقة والبشرية تئن من سياط الظلم والجور، وتتطلّع للعالم الذي لا يسوده التمييز والتجاوز والاعتداء.

وقد تطلّعت البشرية على مدى التاريخ بكافّة أفرادها وطبقاتها ومجتمعاتها، صغيرها وكبيرها، مؤمنها وفاسقها، رجالها ونساؤها، حتى ظالمها ومظلو مها، عالمها وجاهلها لإقامة العدالة وتطبيقها بين الناس، فهي صفة إنسانية قد استبطنتها فطرة الإنسان التي تأبى رفضها والتمرد عليها.

أضف إلى ذلك، فإنّ الصورة التي رسمها كافّة الحكماء والفلاسفة للمدينة الفاضلة كانت قائمة على أساس التكافؤ والمساواة، إلى جانب تطبيق العدالة الاجتماعية، التي تعدّ الركن الركين لتلك المدينة،وسنعرض هنا لآراء بعض الحكماء بهذا الخصوص.

سقراط «470- 399ق. م»:

يعتقد سقراط بأنّ القانون والعدالة يمثلان دعامتي المشروع الذي يطرحه، والذي يتضمّن الحياة الأفضل.
ومراده من القانون، القانون الإنساني الذي يسود كل منطقة وحكومة، أمّا العدالة فهي الانصياع التام لذلك القانون (17) .

أفلاطون «427- 347ق. م»:

لقد نحا أفلاطون منحى أُستاذه سقراط، وغامر وضحّى بحياته في سبيل نشر فلسفته في تلك الظروف السياسية المتوترة، وسعى جاهداً لتأسيس جمهوريته الحديثة -حكومة السماء على الأرض- أو مدينته الفاضلة على أساس أفكاره ومعتقداته. ولم يكن كتابة المعروف «الجمهورية» ليقتصر على النظريات المحصنة، بل كان يسارع مبادراً لإدخالها حيز التطبيق العلمي (18) .
كان يصطلح على الانسجام والتوافق والنظام الذي يسود عناصر المجتمع بالجمال أحياناً، أو عصر الفضيلة والخير، فيرى العدالة هي ذلك الخير والجمال(19) . ويعتقد بأن العدالة الإجتماعية تعني تفويض كل فرد بما يتناسب وإمكاناته وقابلياته (20) .

أَرسطو «384- 322ق. م»:

أَرسطو هو الآخر يرى بأنّ العدالة نوع من التناسب (21) ، ويصرّح بأنّ الحكومة المثالية هي تلك الحكومة التي تهدف إلى إشاعة الرفاه والسعادة في ربوع المجتمع.
وليس هناك من أهمية تذكر لشكل الحكومة، إنّما المهم حماس ومعنويات واستقرار - قادتها - رموزها وعناصرها (22) ، الذين يضطلعون بمهمة تنفيذ القانون واستتباب العدالة وتهيئة أسباب الراحة للمجتمع.
ثم تبعهم سائر الفلاسفة والحكماء في تأكيدهم على مبدأ العدالة. فقد قال «ولتر»: يبدو لي أنّ العدالة من الحقائق ذات الألوية القصوى التي تحظى بقبول العامّة وإن أدّى ظاهرها لارتكاب أَعتى الجرائم (23) .
البنود الإحدى والثلاثون للميثاق الدولي لحقوق الإنسان هي الأُخرى استهدفت القضاء على الاعتداءات والانتهاكات، والتمييز العنصري، وإقامة النظام العادل الذي لا يسوده الظلم والعدوان. فقد تضمّـنت المطالبة بتوفير الحريات وإحقاق حقوق الأفراد على كافة الأصعدة والميادين (24) ؛ وإن كان الواقع العملي خلاف تلك المضامين، بحيث يعدّ الموقعون على تلك البنود أول من تطاول عليها ونقضها وانتهك حرمتها.

 

العدالة عند الفلاسفة الإسلاميين

أمّا على صعيد الفلاسفة المسلمين فيمكن الإشارة إلى الفارابي الذي عكف على دراسة المجتمع نظرياً وبيان متطلباته واحتياجاته في ظل الأجواء والظروف السياسية والإجتماعية السائدة آنذاك، فألّف عدّة رسائل ومؤلفات في المجال السياسي، أشهرها كتابه المعروف بـ«المدينة الفاضلة»، والذي شبّه فيه المجتمع بالجسد وزعيمه بالقلب الذي ينبغي أن يتحلّىّ ببعض الصفات -من قبيل القوة والحزم، والعزم والفطنة، والولع بالعلم ونصرة العدل- لأنه القائد الذي يدبّر سائر الأنشطة والفعاليات، ويمنحها النظام المطلوب (25) .

 

العدالة الإجتماعية في المنهج القرآنى

يمثل مفهوم العدل أحد الركائز الأساسية في الرؤية القرآنية فالعدل هو محور كل شئ ، وعليه ترتكز فلسفة التشريع، وحكمة التكوين، وبناء المجتمع، وحفظ الحقوق، وتعميق المبادئ الأخلاقية.

والعدل لا يقتصر على جانب دون آخر؛ بل هو مطلوب في كل المجالات والحقول، إذ يجب أن يعم العدل في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية والحقوق، وبدونه لا يمكن أن ينعم المجتمع بالسعادة والأمن والاستقرار.

ومما يدل على أهمية العدل في المنظور القرآني أنه «تكررت مادة العدل بمشتقاتها ما يقرب من ثلاثين مرة في القرآن الكريم، ويشير هذا التكرار إلى عناية التنزيل المجيد بالحديث عن العدل» (26) .

فالعدل في القرآن قرين التوحيد، وركن المعاد، وهدف تشريع النبوة، وفلسفة الزعامة والإمامة، ومعيار كمال الفرد، ومقياس سلامة المجتمع.

والعدل القرآني عندما يتعلق بالتوحيد أو المعاد فإنه يعطي معنى خاصًّا لنظرة الإنسان إلى الوجود والعالم، وبعبارة أخرى نقول: إنه نوع من النظرة الكونية.

ولأهمية العدل في حياة الناس؛ فإن أهم هدف لبعث الأنبياء والرسل بعد تعريف الناس بالخالق جلَّ وعلا هو بسط العدل بينهم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ﴾ (27) ذلك لأن الاجتماع البشري لا يمكن أن يتأسس فيه روح النظام والقانون والمساواة إلا بتحقيق العدل والعدالة، ومن هنا جاء الأمر الإلهي بضرورة تطبيق العدل: ﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ﴾ (28) وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ (29) .

فالعدل هو جوهر الإسلام وروحه، وهو المحور الأساس لتطبيق أصول الدين وفروعه، وبتطبيقه تنعم البشرية بالسلام والاطمئنان والأمن والرفاهية والرخاء، أما عندما ينتفي العدل والعدالة من حياتنا، فإن نقيضه سيحل محله، وهو الظلم والجور، وهو أساس كل شر، وسبب كل شقاء، ومنبع الرذائل والفواحش، وجذر التخلف والتقهقر الحضاري ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ (30) .

في معنى العدل

أفضل تعريف لمعنى العدل هو: «وضع الأمور في مواضعها» الوارد عن أمير المؤمنين علي (رضى الله عنه) (31) ولهذا المفهوم الواسع مصاديق كثيرة من جملتها: العدالة بمعنى الاعتدال، العدالة بمعنى رعاية المساواة ونفي كل ألوان التمييز، العدالة بمعنى رعاية الحقوق والاستحقاقات، وأخيراً العدالة بمعنى التزكية والتطهير.

وقال الراغب الأصفهاني: «عدل: العَدَالةُ والمُعَادلةُ لفظ يقتضي معنى المساواة ويستعمل باعتبار المضايفة، والعَدْلُ والعِدْل يتقاربان، لكن العَدْل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام، وعلى ذلك قوله: ﴿أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً﴾ والعِدْلُ والعَدِيلُ فيما يدرك بالحاسة كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعَدْلُ هو التقسيط على سواء» (32) .

فالعدل يعني العدالة، والعدالة تشمل الحكم والقضاء، وتشريع القوانين، والمساواة في مجال الحقوق، وعدم الاعتداء على حقوق الآخرين، ووضع كل شيء في موضعه المناسب له.

وقد عَبَّر القرآن الكريم عن العدل بثلاث كلمات هي: العدل، والقسط، والميزان، إلا أنه أحياناً تأتي كلمة القسط أو الميزان في القرآن الكريم بمعنى مغاير لكلمة العدل، ويُعرف ذلك من خلال سياق الآيات الكريمة وتفسيرها.

في معنى الظلم

نقيض العدل هو الظلم، ولذلك يمكن تعريفه بأنه: «وضع الأمور في غير مواضعها» وقد عَرَّفه الراغب الأصفهاني بقوله: «الظُّلْمُ عند أهل اللغة وكثير من العلماء وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة، وإما بعدول عن وقته أو مكانه» (33) والظُّلْمُ يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، ويقال فيما يكثر وفيما يقل من التجاوز ولهذا يستعمل في الذنب الكبير وفي الذنب الصغير (34) .

والجدير بالانتباه هو استعمال القرآن الكريم كلمة (العدل) في المواضع المتعلقة بوظيفة العباد، وعدم استعماله هذه الكلمة بخصوص الباري تعالى. وبالمقابل يلاحظ تعبير (نفي الظلم) عن الله بكثرة، وتعبير إقامة الله القسط ليس بقليلٍ أيضاً.

ذلك لأن الله سبحانه وتعالى عادل في كل شيء، والمطلوب من الناس أن يطبقوا العدل والعدالة في حياتهم، أما نفي الظلم عن الذات المقدسة فحتى لا يرتاب أحد من الناس أن الظلم الذي وقع عليه هو من الله، فالله عز وجل يريد العدل في كل شيء، والظلم لا يمكن أن يكون صادراً إلا من البشر.

والظلم -كما يرى بعض الحكماء- ثلاثة:

الأول: ظُلْمٌ بين الإنسان وبين الله تعالى وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال:﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (35) وإياه قصد بقوله: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾(36) ﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ (37) في آي كثيرة وقال: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى الله﴾ (38) ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِباً﴾ (39) .

والثاني: ظُلْمٌ بينه وبين الناس وإياه قصد بقوله: ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾