نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً ، ولم ينزل دفعة واحدة ، وحتى عندما ساموه على الغنى والقيادة لمكة ، وها هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلي الله عليه وسلم، يعلنها صريحة لعمه “أبي طالب” “وسيط التفاوض غير المباشر” بين قريش، ورسولنا الأكرم صلي الله عليه وسلم، لإثنائه عن دعوته الشريفة: “والله، يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه ، ما تركته)”(3)


وبين الله سبحانه وتعالى للرسول صلى الله عليه وسلم قَدْرَهُ ، وطريقة حواره مع من يدعوهم للإسلام واستيعابهم في مجموعة من آيات القرآن الكريم منها:

“ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك” (4)

“وإنك لعلى خلق عظيم”(5)

“وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً”(6)

“محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم”(7)

لقد تناول القرآن الكريم الحقائق العلمية المسلمة: وبتعبير آخر تقديمها بالطريقة التي تتفق مع الفطرة بحيث لا تتعارض مع البحوث التفصيلية اللاحقة ، لاسيما وأن القرآن الكريم ليس كتاباً علمياً بالمعنى الذي نعرفه اليوم ، لكنه لم يورد من الحقائق العلمية إلاّ ما هو مسلم به ، وفي الحدود التي يستوعبها عقل الإنسان في كل عصر من العصور.

واستندت الدعوة إلى اعتماد أفضل أساليب القول والأداء في ممارسة الإعلام ودعوة الآخرين والتي تتمثل في الآتي:

   1-  الواقعية في الحوار: والمقصود بالواقعية هو أن وحي السماء قد علمنا مواجهة الأحداث والوقائع حين 

      حدوثها ذلك أن الفكرة النابعة من المواجهة تتصف بالحرارة والحيوية وتتميز بقدرة فائقة على التأثير في

      النفوس، ومما يلفت النظر أن الأفكار والموضوعات التي تبقى في حيز النظريات غير قابلة للتطبيق أو 

      التي لا تتهيأ لها الظروف الملائمة لتطبيقها تفقد تأثيرها في النفوس وتتحول إلى جملة من الأفكار المترفة

      التي لا تصلح إلا لتقضية السهرات في الليل أو لملء أوقات المترفين من المثقفين، وهذا هو السر في

      القرآن الكريم، قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجمًا، وبتعبير آخر كانت السور أو الآيات

      تنزل استجابة لحادث معين أو جوابًا عن سؤال معين أو شرحًا لموقف من المواقف، ومن هنا يتبين أن

     استباق الأمور والقفز من فوق الأحداث لا يتفقان مع منهج المعاصرة في المحاورة والإعلام والمناقشة

     التي جاء بها القرآن الكريم، وهذا هو الذي يفسر سقوط الأفكار والفلسفات والدعوات الأرضية التي لا

  .تتصل بالحقائق والوقائع المعاشة عند الناس في كل عصر   

اللين في القول: “فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى”(10) ، “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”(11).

القول الحسن: “وقولوا للناس حسناً”(12).

البصيرة في الأداء والتوصيل: “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”(13).

الحكمة في العرض واختيار الموعظة الحسنة في الموضوع ، والجدال الشريف العفيف المتمثل بغاية الوصف بالحسن: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”(14).

اللفتة المثيرة للانتباه: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يفعلها من ذلك ما ورد في حجة الوداع حين خطب الناس فقال: [أي يوم هذا؟ أي بلد هذا؟ أي شهر هذا؟ ] والناس لا يردون عليه إلاّ بقولهم: الله ورسوله أعلم ثم يقول بعد ذلك: [إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ….] (15).

التزام الصدق: هذه الصفة بالغة الأهمية في الإعلام الناجح وفي الدعوة إلى الله فإن تحرى الحقائق والوقائع والالتزام بروايتها، كما وقعت هي الضمانة الأساسية للفوز بثقة الناس الذين هم غرض المادة الإعلامية أو هدف الدعوة إلى الله، وليس أدل على أهمية الصدق وتحري الحقيقة في الإعلام من تاريخ الوقائع الإسلامية نفسها، لقد أثبتت مجريات التاريخ الإسلامي أن الأكاذيب والأساطير التي وجهت بها الدعوة الإسلامية قد سقطت كلها أمام الاستقامة والطهارة في مناقب أصحاب الدعوة إلى الله.

المواجهة الصريحة وتسمية الأشياء بأسمائها: فكل تسمية تتم على حساب العقيدة والشريعة في سبيل الحصول على مكاسب وقتية هي في الحقيقة جناية على العقيدة والشريعة في وقت معًا، ولنا فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواقف ما يؤكد هذا الرأي، ولاسيما يوم أن رفض التسوية التي عرضت عليه من قبل قريش بواسطة عمه أبي طالب فقال قولته الخالدة: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه).

فعالية السلوك: لوحظ أن القرآن الكريم قد ركز تركيزًا شديدًا على الجانب الخلقي عند الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبر أن نجاح الدعوة إلى الله موصول في جانب كبير من سلوكه عليه الصلاة والسلام، فقد ورد فيه قوله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159]، ويقول في مكان آخر: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4]، وفي مكان ثالث يصف القرآن أخلاق عباد الرحمن فيقول عز من قائل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً}[الفرقان:63، 64] إلى آخر سورة الفرقان. لكن روح الإسلام عند عباد الرحمن ليست روح الاستسلام؛ فقد ورد في مكان آخر قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح:29].

الاهتمام بكل صغيرة وكبيرة حتى لا تترك أي ثغرة في بناء الدعوة إلى الله: إن كل من يتلو القرآن الكريم يتبين له أن الحوار يتناول كل الأحداث والمواقف وكل الناس من كل الطبقات والفئات ابتداء من المشرك الكبير حتى المؤمن الفقير، وابتداء من الوفود الكبيرة التي تحاور وتناقش ومن كبير الخزرج عبدا لله بن أبي الذي كان على رأس المنافقين حتى المستضعفين الذين بقوا على كفرهم أو نفاقهم متابعة لكبرائهم، والقرآن لا يتردد في أي أسلوب من أساليب البيان، ولا يستحي أن يضرب أي مثل من الأمثلة في سبيل خدمة الدعوة إلى الله.

الأخذ بأسلوب الاستيعاب الإعلامي: والمقصود بالاستيعاب هنا هو أن القرآن الكريم قد أخذ بطريقتين أساسيتين في الأداء لما لهما من أثر بالغ في تحقيق هذا الاستيعاب:

البيان المعجز: لقد جاء القرآن الكريم كتابًا عربيًا مبينًا يتحدث إلى الناس بلغة العرب، ولكنه جاء بأسلوب معجز تحدى به المعاندين والمتكبرين أن يأتوا بما يماثله في نصاعة التعبير وقوة البيان ولا يزال هذا التحدي المعجز قائمًا حتى اليوم، وسيبقى قائمًا إلى يوم يبعثون.

التنوع في الأداء القرآني: فالقرآن في حقيقته تركيب عجيب في بناء آياته وفي الموضوعات والقضايا التي يتناولها من خلال وعظه وتعليمه ومحاوراته التي يرد بها على المعترضين أو يعقب بها مؤيدًا أو منددًا أو مبشرًا أو منذرًا، وفي وسع القارئ أن يستعين بالدراسات الكثيرة التي تناولت ظاهرة الإعجاز القرآني من هذه الناحية.

وهذه هي بعض الأساليب الإعلامية التي استخدمها الله عز وجل في توصيل الرسالة الربانية لخلقه أجمعين ، بما فيها من أساليب راقية تناسب الجميع وتخاطب كل حسب احتياجه ومستواه ، فالأحرى بنا أن نتعلم ونستقي من قرآننا الحنيف حتى نستطيع إبلاغ رسالة الله في الأرض ويتحول أدائنا من مجرد توصيل ونشر القيم والسلوكيات والأهداف الخاصة بنا إلى تغيير حقيقي يتمثل في تعديل سلوكيات المجتمع وتعديل في قناعات واتجاهاته وزيادة في معارفه ترتقي به وتصل به إلى مجتمع إسلامي تتمثل فيه كل معاني وآداب وأخلاقيات المجتمع النبوي المنشود ، وإذا كنا نعني بالتغيير تغييراً في المجتمع والذي هو الحاضن الأساسي والهدف الرئيس لكل فعل أو تخطيط تنموي أو حضارة فالمجتمع عنصر أساسي في عملية التنمية والنهضة وهدف نهائي.

ــــــــــــــــــــــ
المصدر : منارات