رصد موقع "هورن ريفيو" استراتيجية مصر تجاه السودان في مرحلة ما بعد انهيار حكم الرئيس عمر البشير في عام 2019، قائلاً إنها اتجهت نحو سياسة "التماسك المركزي"، وراهنت على أن الإطار المركزي بقيادة عسكرية يوفر الآلية الوحيدة القابلة للتطبيق لتوحيد مركز القوة المتشظي في السودان وتأمين تدفق المصالح الوطنية في اتجاه المصب.
وفيما يطرح التساؤل: لماذا يُفضّل نشر النموذج المصري للحكم العسكري؟، أجاب على ذلك بأن الجيش يُمثّل مستقبلاً من اليقين المُحكم وسلسلة قيادة واضحة، استند إليها السياسيون المصريون عبر التاريخ في مفاوضاتهم على الساحة الدولية.
علاوة على ذلك، تعتقد الحكومة المصرية أن السودان العسكري يُمثّل جهاز حكم قادر على مقاومة رياح التدخل، بما يضمن استمرار تدفق نهر النيل، والذي لا يزال في نهاية المطاف، هدفًا رئيسًا لمصر، ونقطة توتر مستمرة في نزاعاتها مع إثيوبيا.
وأشار الموقع إلى أن مصر سعت استراتيجيًا إلى تنصيب حكومة قوية عسكرية في السودان، تُعطي الأولوية للنفوذ على أراضيها بدلاً من المخاطرة بنزاعات على أراضيها. ولذلك، سعى السياسيون المصريون إلى التأثير على الرؤساء المتعاقبين في السودان لخدمة هذه المصالح.
لذا، رأى أن السودان العسكري يُمثّل حكومة قادرة على الحفاظ على هذا الوضع، في المقابل، تُمثّل الميليشيات خطرًا مُحدقًا يتمثل في تأجيج عمليات التهريب، الأمر الذي سيُضرّ في نهاية المطاف بالمصالح المصرية.
واعتبر الموقع أن التفويض المصري لعسكرة السودان لا يُمثل تحولاً رجعيًا، بل هو عقيدة جيوسياسية راسخة تنظر إلى القوات المسلحة السودانية باعتبارها الجناح الجنوبي الفعلي لمصر. فعلى مدى عقود، أولت البنية الإقليمية لمصر الأولوية للاستقرار المؤسسي على حساب التوافق الأيديولوجي، وهو موقفٌ تحوّل إلى احتكاكٍ علنيٍّ عقب الانتقال السياسي عام 2019. ولم تنظر المخابرات المصرية إلى ظهور الإدارة الهجينة بقيادة عبدالله حمدوك على أنه إنجازٌ ديمقراطي، بل على أنه تجربةٌ محفوفةٌ بالمخاطر في هشاشة الدولة.
واستنادًا إلى التقلبات التاريخية التي شهدتها البلاد عامي 1964 و1985، قال إن إدارة السيسي ترى أن الحكم المدني في السودان فراغٌ مُعرّضٌ للتدخل الخارجي والتفتت الداخلي. ومن منظورٍ أمنيٍّ براجماتي، ترى القاهرة أن العناصر الإسلامية تُحيد بشكلٍ أكثر فعالية عند دمجها ضمن تسلسل قيادة عسكري صارم بدلاً من السماح لها باكتساب شرعية برلمانية. ففي الحسابات المصرية، يُعتبر العسكري داخل الثكنات رصيدًا مُدارًا، بينما يُمثل العسكري داخل البرلمان تهديدًا سياديًا.
وعزا تفضيل مصر للحكم الاستبدادي في السودان إلى أنه ينبع من اعتقادها بأن يُقلّل من المتغيرات العملياتية، ويُقمع التعددية الأيديولوجية التي تعتبرها مصر قناةً لزعزعة الاستقرار برعاية خارجية.
وأشار إلى أن القاهرة تنظر إلى القوات المسلحة السودانية باعتبارها الركيزة الوحيدة القادرة على ضمان الأمن الإقليمي، لأنه من وجهة النظر المصرية، تعتبر الدولة العسكرية المعادية خصمًا يمكن السيطرة عليه ولها تسلسل قيادة واضح؛ أما الديمقراطية المدنية المجزأة فهي خطر لا يمكن احتواؤه.
وذكر الموقع أن مصر نظرت إلى القوات المسلحة السودانية كحاجز جيوسياسي، يوفر "درعًا مقسمًا" ضد امتداد توغلات البدو التشاديين، وانهيار الدولة الليبية، وضغوط النزعات التوسعية الجنوبية. وحرصًا على الحفاظ على هذا الحاجز، تسامحت مصر مع التقلبات الأيديولوجية في عهد البشير، مع إعطاء الأولوية لدور الجيش كحكم دائم على استقرار السودان وحامٍ لأمن مصر في أعالي النيل.
وقال إن المرحلة الانتقالية التي أعقبت عام 2019 قد أتاحت لمصر فرصةً لإضفاء الطابع الرسمي على هذا الترتيب. وكان الهدف الاستراتيجي المصري هو هندسة اندماج مؤسسي بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، بهدف ضم الأخيرة إلى دور تابع ضمن هيكل قيادة موحد. كان الهدف هو إنشاء كيان هجين متجانس، "قوة عظمى"، نسخة سودانية من الجهاز العسكري السياسي المصري.
مع ذلك، أوضح الموقع أن هذه المحاولة لفرض تماسك مصطنع بين كيانين متناحرين بطبيعتهما أثبتت أنها خطأ استراتيجي كارثي. بدلاً من تحقيق التوحد، وأدت سياسة مصر إلى تفاقم الانقسامات الداخلية التي حفزت في النهاية الانهيار الكامل لبنية الدولة السودانية.
لماذا سودان عسكري موحد؟
ورأى التقرير أن من شأن سودان عسكري موحد أن يضمن للخرطوم سندًا قويًا يمكنها من خلاله حماية مصر في قضية سد النهضة، حيث تقوم إثيوبيا بملء السد، وهو ما تعتبره مصر تهديدًا.
وأشار إلى أن مصر تشعر بأنها محاصرة؛ ويمكنها مواجهة ذلك بوجود قوة عسكرية كبيرة في السودان لمنع أي مضايقات على الحدود، بالإضافة إلى ميناء على البحر الأحمر لتحقيق مكاسب إقليمية قد تُزعزع استقرار إثيوبيا نفسها.
ولفت إلى أن شائعات اختراق جماعة الإخوان المسلمين لقيادة القوات المسلحة السودانية، بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، لم تكن عائقًا لا يُمكن تجاوزه؛ إذ يعتقد السياسي المصري أن الإسلاميين قابلون للسيطرة طالما أنهم ملتزمون بالمؤسسات؛ أما المدنيون، فقد يُشكلون خطرًا كارثيًا يصعب السيطرة عليه.
وذكر أن مصر تبنت هذا المبدأ بشكل كامل، وانضمت بقوة إلى قيادة القوات المسلحة السوانية بعد عام 2019، ولم تنظر إلى انقلاب 2021 على أنه انتكاسة، بل تصحيح عملياتي ضروري لتهميش طموحات حمدوك المدنية. وكان دعم مصر ملموسًا، إذ سهّلت عمليات نقل المعدات العسكرية وقادت قممًا دبلوماسية لإعادة بناء مكانة الجنرال برهان الدولية. وكان المنطق السائد هو أن الانتقال بقيادة الجيش من شأنه أن يخفف من حدة التقلبات "غير المتوقعة" للحركات الديمقراطية الشعبية ويؤمّن منطقة عازلة لمصر في جنوب البلاد.
لكنه رأى أن هذا الاعتماد على نموذج "السيسي" كشف عن خلل جوهري في المخابرات المصرية. تمثل قوات الدعم السريع خروجًا جذريًا عن النموذج التقليدي لهيمنة الجيش؛ فهي قوة إقليمية جبارة متجذرة في شبكات القبائل في الرزيقات والمسيرية، ولها امتداد عابر للحدود يصل إلى تشاد وفزان الليبية.
وقال إنه بينما كانت عقلية القاهرة العسكرية، التي صقلتها بيئة مركزية مؤسسية، تُقدّر القوات المسلحة السودانية لقدرتها على التنبؤ، إلا أنها أغفلت قاعدة القوة اللامركزية والحركية لقوات الدعم السريع. وبسعيها لترسيخ سودان "عسكري"، حفزت القاهرة، دون قصد، صراعًا مع جهة فاعلة غير حكومية لا تحترم الإطار المؤسسي للجيش الوطني التقليدي.
وأوضح أن انهيار تحالف القوات المسلحة السوانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023 أدى إلى خطأ جيوسياسي في حسابات الهوية المؤسسية لمصر. فقد سيطرت ميليشيا حميدتي الممولة بالذهب، والتي تعمل خارج نطاق النظام المالي التقليدي للدولة، على قلب الخرطوم الإداري، مما أكد مخاوف القاهرة الوجودية من تفتيت الدولة.
ومع ذلك، أكد أن القاهرة لا تزال متمسكة بتمييزها الدقيق: فوجود إسلامي داخل التسلسل الهرمي العسكري يُعد متغيرًا يمكن التحكم فيه، بينما وجود إسلامي في برلمان مدني يُشكل تهديدًا سياديًا.
وفسر التزام القاهرة بـ"العمود الفقري المؤسسي" للقوات المسلحة السودانية على أنه محاولة يائسة لضمان الهيمنة على النيل. ومع وصول سد النهضة إلى مرحلة التشغيل النهائية في عام 2025، لا تزال مصر تنظر إلى الإدارة العسكرية المركزية باعتبارها حاجزها الوحيد القابل للتطبيق ضد "الوحش القبلي".
وقال إن القاهرة تراهن على أن الحصن العسكري الهش أفضل من الحكم الذاتي "الممول بالذهب والمرتزقة" الذي يُهدد بإشعال حرب عابرة للحدود.
وعلى الرغم من الدعم للقوات المسلحة السودانية إلا أن الموقع طرح تساؤلاً: هل ستتعاون مصر مع قوات الدعم السريع إذا ما استولت على السلطة؟ مرجحًا إذا ما تلاشى الجيش السوداني، أن تُعيد القاهرة تنظيم صفوفها بشكلٍ عدائي، فتتعامل مع قوات الدعم السريع لا كطرفٍ ندٍّ شرعي، بل ككيانٍ مُسيطرٍ بحكم الأمر الواقع، يجب رشوته أو إجباره على الحفاظ على الوضع الراهن في النيل. وعزا ذلك إلى أنه بالنسبة لمصر، لا شيء أسوأ من جيشٍ معادٍ سوى صحراءٍ قاحلةٍ لا يمكن السيطرة عليها.

