منذ صفقة عام 2005 التي فجّرت جدلًا واسعًا في مصر حول تسعير قيل إنه أدنى من كلفة الإنتاج، لم يعد غاز شرق المتوسط مجرد تجارة طاقة، بل تحوّل إلى ملف متشابك يمسّ السيادة والقضاء والأمن، قبل أن يبلغ ساحات التحكيم الدولي، ثم يعود مجددًا عبر بوابة القطاع الخاص في عام 2018. وبين البداية والنهاية، رسم الغاز مسارًا متقلبًا يعكس تحولات السياسة والاقتصاد والأمن في المنطقة.
2005 بداية المسار المثير للجدل
بدأت القصة باتفاق تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل عام 2005، والذي نصّ على توريد نحو 1.7 مليار متر مكعب سنويًا لفترة طويلة. الصفقة أثارت اعتراضات واسعة في مصر بسبب أسعار قيل إنها تراوحت بين 70 سنتًا و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية، في حين قدرت كلفة الإنتاج بنحو 2.65 دولار. ورغم توقيع الاتفاق في 2005، لم يبدأ الضخ إلا في 2008 بعد استكمال التجهيزات الفنية ومدّ خط أنابيب بحري بطول يقارب 100 كيلومتر من العريش إلى عسقلان.
نُفذت الصفقة عبر شركة «غاز شرق المتوسط» (EMG)، وهي شراكة ضمّت رجال أعمال مصريين وإسرائيليين ومستثمرين أجانب، من بينهم حسين سالم ومجموعة ميرهاف الإسرائيلية. تزامن التصدير مع أزمات داخلية في مصر، شملت نقص أسطوانات الغاز وأزمات كهرباء حادة، ما غذّى الغضب الشعبي تجاه الاتفاق.
معركة القضاء والشارع
لم تمر الصفقة بهدوء، إذ شهدت احتجاجات سياسية وبرلمانية ودعاوى قضائية تطالب بوقف التصدير باعتباره إضرارًا بالمصلحة العامة. وفي عام 2008 أصدرت محكمة القضاء الإداري حكمًا بوقف التصدير، قبل أن تعود المحكمة الإدارية العليا وتعلّق التنفيذ مؤقتًا، معتبرة الملف من «أعمال السيادة». واستمر الجدل حتى 2010، وسط مطالبات بمراجعة الأسعار والكميات.
بعد 2011، دخل العامل الأمني بقوة، مع سلسلة تفجيرات استهدفت خط الغاز في شمال سيناء، ما أدى إلى توقف الضخ مرارًا. وفي أبريل 2012 أعلنت القاهرة إنهاء الاتفاق بدعوى «خلافات تجارية»، بينما اعتبرت إسرائيل القرار غير قانوني. وخلال فترة التوريد، كانت إسرائيل تعتمد على الغاز المصري لتوليد نحو 40% من كهربائها، فيما قدّرت خسائر مصر بعشرات المليارات من الدولارات.
بعد ست سنوات، انعكست المعادلة. ففي فبراير 2018، أُعلن عن صفقة «تاريخية» تستورد بموجبها شركة «دولفينوس» المصرية الخاصة نحو 64 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي من حقلي تمار وليفياثان على مدى عشر سنوات، بقيمة تقارب 15 مليار دولار. الصفقة أثارت جدلًا سياسيًا وإعلاميًا جديدًا، وأُقيمت دعاوى قضائية تطالب بوقف الاستيراد.
مصر كمركز إقليمي للطاقة
جاءت صفقة 2018 ضمن رؤية تحويل مصر إلى مركز إقليمي لتجارة وتسييل الغاز، عبر إعادة توظيف البنية التحتية القائمة، وعلى رأسها خط «إي إم جي» الذي استُخدم سابقًا للتصدير من مصر إلى إسرائيل. كما اشترت الأطراف المشاركة حصة في الخط بنحو 518 مليون دولار، في خطوة أنهت جزءًا من نزاعات التحكيم السابقة.
منذ البداية، أحاطت شكوك تقنية بالصفقة، إذ تحدثت تقارير عبرية عن محدودية السعة الداخلية للشبكة الإسرائيلية مقارنة بالكميات المتعاقد عليها. ورغم بدء الضخ رسميًا في يناير 2020، تعرّض الخط لاختبارات أمنية مبكرة، شملت حوادث تفجير وحرائق قرب مساره في سيناء.
الأسعار والجدوى الاقتصادية
دفعت مصر في صفقة 2018 نحو 6 دولارات للمليون وحدة حرارية للغاز الإسرائيلي، ومع إضافة كلفة الإسالة وإعادة التحويل، تجاوز السعر 8 دولارات. ورغم ذلك، استمرت الإمدادات، وارتفعت الواردات تدريجيًا، مسجلة مستويات قياسية في 2024.
عملت إسرائيل على توسيع شبكة الأنابيب لزيادة الصادرات إلى مصر، عبر خطوط برية وبحرية جديدة بتكلفة مئات الملايين من الدولارات، ما سمح برفع الإمدادات إلى ما بين 3 و5 مليارات متر مكعب سنويًا، مع خطط لزيادتها مستقبلًا.
في فبراير 2025، طُرحت مطالب إسرائيلية برفع أسعار الغاز المصدّر إلى مصر بنحو 40%، وسط ربط غير معلن بالوضع السياسي الإقليمي، خاصة حرب غزة. القاهرة رفضت المقترح وأجّلت النقاش، محذّرة من استخدام الطاقة كورقة ضغط.
في أغسطس 2025، وُقع أكبر اتفاق تصدير غاز في تاريخ إسرائيل، لتوريد نحو 130 مليار متر مكعب إلى مصر حتى 2040، بقيمة تصل إلى 35 مليار دولار. شاركت في الصفقة شركات شيفرون ونيو ميد وراتيو، لكن التنفيذ تأخر بسبب إجراءات الترخيص داخل إسرائيل.
ضغط أميركي وحسم متأخر
شهد خريف 2025 تلكؤًا إسرائيليًا في منح الموافقات النهائية، ما دفع الولايات المتحدة للتدخل، نظرًا لوجود شركة شيفرون في قلب الصفقة. وفي 17 ديسمبر 2025 أُعلن رسميًا إقرار الصفقة، بشروط جديدة ولكن بالسعر والمدة نفسيهما.
منذ أواخر 2023، تحولت الإمدادات إلى «مفتاح كهرباء»، تتأثر بالحروب والصيانة. فمع حرب غزة أُغلق حقل تمار، وتوقفت الصادرات عبر خط «إي إم جي». وتكررت الانقطاعات في 2025 بسبب الصيانة ثم الحرب بين إسرائيل وإيران، ما أدى إلى توقف أو تقليص الإمدادات لمصر.
التداعيات والمستقبل على الداخل المصري
أثرت الانقطاعات على الصناعة المصرية، خاصة قطاعات البتروكيماويات والأسمدة، مع تزايد اعتماد مصر على الغاز الإسرائيلي الذي بات يمثل ما بين 15 و20% من استهلاكها. وأعادت الأزمة طرح أسئلة السيادة وأمن الطاقة وجدوى الارتهان لمسارات خارجية.
يبقى مستقبل صفقة 2025 مرتبطًا بتوسعة البنية التحتية، إذ يتطلب رفع الإمدادات إنشاء خطوط جديدة واستثمارات إضافية في الآبار. وبين السياسة والسوق، يظل غاز شرق المتوسط عنوانًا لصراع مصالح يتجاوز الطاقة إلى حسابات النفوذ والضغط الإقليمي.

