فيلم "أعلم أنك تسمعني" لا يقدّم مجرد حكاية شخصية، بل يدخل إلى قلب التجربة الفلسطينية عبر بوابة النفس المجروحة والطفولة المهددة، مستثمرًا لغة السينما القصيرة لتكثيف الألم والأمل في زمن محدود، دون التفريط في العمق أو البعد السياسي الإنساني. العمل يثبت كيف يمكن للصورة والحكاية أن تتحولا إلى شكل من أشكال المقاومة الناعمة في مواجهة الاحتلال وسرديّاته.
عرض عالمي أول في القاهرة
شهدت الدورة السابعة من مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير العرض العالمي الأول للفيلم الفلسطيني "أعلم أنك تسمعني" ضمن المسابقة الدولية، في إشارة إلى حضور متزايد للسينما الفلسطينية على منصات المهرجانات العربية والعالمية. اختيار القاهرة كمنصة أولى يمنح الفيلم رمزيتين: الأولى فنية ترتبط بمكانة المهرجان في خريطة السينما القصيرة، والثانية سياسية – ثقافية ترتبط بكون القاهرة فضاءً جماهيريًا عربيًا قادرًا على استقبال رسالة الفيلم الفلسطينية.
ينتمي الفيلم إلى إنتاج فلسطيني – إيطالي، بمشاركة من السعودية وقطر، ما يعكس شبكة تعاون عابر للحدود حول مشروع فني واحد، ويؤكد أن الحكاية الفلسطينية باتت تُروى اليوم بأدوات إنتاج دولية دون التخلي عن جذورها المحلية. هذا المزيج الإنتاجي يمنح العمل قدرة أكبر على الانتشار، ويؤطره ضمن موجة من الأفلام الفلسطينية التي تسعى للخروج من الحصار الجغرافي والسياسي عبر بوابة السينما.
حكاية منير.. عزلة نفسية وطفل يهرب إلى حكاية شعبية
يتتبع "أعلم أنك تسمعني" قصة الشاب منير، الذي يعيش عزلة نفسية عميقة وصدمات طفولة غير ملتئمة، فيختار أن يستعيد الاتصال بذاته عبر استدعاء حكاية شعبية عن راعٍ وزوجته. هنا لا تُستخدم الحكاية الشعبية كزينة تراثية، بل كبوابة علاجية، إذ تتقاطع ذكريات منير مع عناصر الحكاية، فيجسد نفسه طفلاً يهرب من الواقع المؤلم نحو عالم متخيّل يبحث فيه عن الأمان والحب في حضن "أم" رمزية.
هذا البناء يتيح للفيلم أن يناقش ثيمة فقدان البراءة والتصالح مع الذات من خلال لغة بصرية تعتمد على التوازي بين الواقع والخيال، وبين صورة الطفل وصوت الراشد. استدعاء الأم الخيالية ليس هروبًا رومانسيًا، بل محاولة لاستعادة مركز عاطفي مفقود في حياة شخصية عانت من جراح مبكرة، في مجتمع يعيش أصلاً تحت ضغط الاحتلال والعنف البنيوي.
أداء الممثلين وتجربة السينما القصيرة
شارك في بطولة الفيلم كل من كارمن لاما، كامل الباشا، أمل مرقس، وهدى الإمام، وكلهم أسماء ذات حضور في المسرح والسينما الفلسطينية والعربية، ما يمنح العمل قاعدة تمثيلية راسخة رغم قصر مدته. وجود كامل الباشا – المعروف بأدواره القوية في أفلام عربية ودولية – يضيف ثقلًا أدائيًا، بينما تمثل كارمن لاما وجهًا فلسطينيًا شابًا يتحرك بثقة في فضاء التجارب الجديدة.
تقول كارمن لاما إن الفيلم هو تجربتها الأولى في الأفلام القصيرة، وإن هذه التجربة عرّفتها على تحدّي تكثيف المشاعر الإنسانية في زمن محدود دون الإخلال بالحبكة أو التأثير في المتلقي. هذه الملاحظة تلخّص جوهر السينما القصيرة: قدرة على الإمساك بلحظة نفسية أو إنسانية حادة، وتحويلها إلى صورة مكثفة بدل امتدادها في مسار زمني طويل كما في الفيلم الروائي. كما تشير لاما إلى رصيدها المسرحي في مصر والعراق والمغرب وتونس، ما يوضح خلفيتها الفنية العابرة للحدود التي تنعكس في أدائها.
رؤية المخرج يوسف الصالحي: الفن سلاح في مواجهة الاحتلال
المخرج يوسف الصالحي، المولود في القدس، عبّر عن سعادته بإقامة العرض الأول في مصر، مؤكدًا أن الفيلم يحمل قدرًا كبيرًا من "المشاعر الصادقة" وأنه يعتمد على أحداث حقيقية وواقعية مع مساحات محدودة من الخيال. هذه المزج بين الواقع والخيال يشكل إحدى أدوات السينما الفلسطينية الحديثة في معالجة الجراح الفردية ضمن سياق جماعي موسوم بالاحتلال.
يرى الصالحي أن الفن هو "السلاح الوحيد والقوي" في مواجهة الاحتلال، وأن مهمة السينمائي الفلسطيني ليست فقط إنتاج صور جميلة، بل كشف عدوانية المحتل أمام العالم عبر الحكايات الإنسانية التي تنقل الألم اليومي بعيدًا عن لغة البيانات السياسية الجافة. رصيده السابق من الأفلام – مثل "صار الوقت"، "هل تقع الأرض إذا توقفت عن الدوران؟" و"ذاكرة السمكة" – يدل على اهتمام متواصل بالأسئلة الوجودية والذاكرة والهشاشة الإنسانية، وهو ما يتكامل مع ثيمة "التصالح مع الذات" في عمله الجديد.
هدى الإمام والسينما كذاكرة للقضية الفلسطينية
الممثلة هدى الإمام، التي شاركت بدور بسيط في الفيلم، تؤكد أن مشاركتها جاءت دعمًا للتجارب الشابة من الممثلين والمخرجين، انطلاقًا من قناعة بأن الجيل الجديد هو الذي سيواصل حمل الراية الفنية للقضية الفلسطينية. تشدد الإمام على أن الفيلم القصير أداة مثالية لتناول "القضايا الكبرى بشكل مختصر وعميق"، لأنه يجبر الصنّاع على التركيز على الجوهر دون إطالة أو ترهّل درامي.
وعن دور السينما في سرد القضية الفلسطينية، تؤكد أن السينما "تنقل حكايتنا إلى العالم، وتظهر كيف يعيش الفلسطينيون ويقاومون"، داعية إلى الإكثار من الأفلام التي تتناول الهوية والكرامة والواقع اليومي تحت الاحتلال. سجلها السابق في أعمال مثل "صالون هدى"، "فرحة" و"ميرال"، إلى جانب نشاطها الحقوقي، يجعل شهادتها امتدادًا لمسار طويل ترى فيه الفن جزءًا من معركة الوعي العالمي بالقضية.
بهذا المعنى، لا يأتي "أعلم أنك تسمعني" كفيلم معزول، بل كحلقة جديدة في سلسلة من الأعمال الفلسطينية التي تمزج بين الألم النفسي والجرح الوطني، وتستخدم أدوات السينما القصيرة لتثبيت الحكاية في ذاكرة المتفرج، عربيًا وعالميًا، عبر قصة شاب واحد يحمل في جراحه صدى جيل كامل.

