في سابقة لم تشهدها مصر حتى في أحلك عصورها، دشن نظام الانقلاب مرحلة جديدة من "تصفية الدولة" ببيع قطاع الصحة للمستثمر الأجنبي.

 

فبعد التفريط في الأراضي والموانئ والأصول السيادية، وصل قطار الخصخصة إلى "لحم الحي"، حيث كشفت التقارير وتصريحات الفيديو المتداول عن تسليم إدارة مستشفيات حكومية استراتيجية -أنفق عليها الشعب المليارات لتطويرها- إلى تحالف يضم شركة "إيني" الإيطالية (الشهيرة باستخراج الغاز) ومجموعة "سان دوناتو"، في صفقة مشبوهة تحول الخدمة الطبية من حق دستوري إلى "سلعة" تخضع لحسابات الربح والخسارة، وتضع ملايين المرضى الفقراء أمام خيارين لا ثالث لهما: "الدفع أو الموت".

 

وهو ما حذر منه الدكتور محمد حسن خليل، منسق لجنة الدفاع عن الحق في الصحة، الذي وصف القانون والتوجهات الحالية بأنها "تخريب متعمد للمنظومة الصحية"، مؤكداً أن الحكومة تتنصل من مسؤوليتها الدستورية وتلقي بالمريض في "سوق مفتوح" لا يرحم، حيث سيتحول العلاج لمن يملك المال فقط، مما يعيد مصر إلى عصور ما قبل التأمين الصحي، ويهدد الأمن الاجتماعي في الصميم.

 

هذه الاتفاقية تأتي كتطبيق عملي ووحشي لقانون "منح التزام المرافق العامة" (المعروف إعلامياً بقانون تأجير المستشفيات) الذي مرره برلمان العسكر مؤخراً، والذي يمثل إعلاناً رسمياً عن وفاة "مجانية الصحة" في مصر، وانسحاب الدولة من دورها الدستوري كراعية لمواطنيها، لتتحول وزارة الصحة إلى مجرد "سمسار" يؤجر المباني والمعدات للأجانب ليتربحوا من أوجاع المصريين، بينما يقف المواطن عاجزاً أمام "تسعيرة" المستثمر الأجنبي.

 

https://www.tiktok.com/@aj.egypt/video/7584444177686039829?is_from_webapp=1&sender_device=pc

 

إيطاليا تدير مستشفياتنا.. "بيزنس" سياسي على أنقاض الصحة

 

تحت لافتة "الشراكة والتطوير" الخادعة، سلمت حكومة السيسي مفاتيح مستشفيات كبرى (مثل مستشفى هليوبوليس، ومستشفيات منظومة التأمين الصحي الشامل ببورسعيد) للجانب الإيطالي. المفارقة الصارخة هنا هي دخول شركة "إيني" -عملاق الطاقة والغاز- كطرف في معادلة إدارة المستشفيات، وهو ما يطرح تساؤلات كارثية حول طبيعة الصفقة: هل أصبحت صحة المصريين جزءاً من "فاتورة الغاز" أو صفقات سياسية لضمان الدعم الأوروبي للنظام؟

 

وفي هذا السياق، انتقدت الدكتورة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب، بشدة فلسفة الحكومة في هذا الملف، متسائلة في طلبات إحاطة سابقة: "لماذا نمنح المستثمر مستشفيات قائمة وناجحة ومطورة بمليارات الجنيهات من أموال دافعي الضرائب؟"، مشيرة إلى أن الأولى كان إلزام المستثمر ببناء مستشفيات جديدة في مناطق محرومة، بدلاً من تسليمه "الجمل بما حمل" ليجني الأرباح الجاهزة، وهو ما يؤكد أن الهدف ليس تطوير الخدمة بل "البيع والتربح".

 

النظام يزعم أن الهدف هو "تحسين الجودة وجلب التكنولوجيا"، لكن الواقع يؤكد أن المستثمر الأجنبي لن يأتي ليقدم خدمة مجانية أو "لوجه الله" للمواطن المصري. الهدف هو الربح بالعملة الصعبة، وهو ما يعني تحويل هذه الصروح الطبية إلى "مستشفيات استثمارية" بأسعار سياحية، لن يتمكن المواطن البسيط من عبور بواباتها إلا إذا كان يحمل بطاقة ائتمان، بينما يتم حشر "الغلابة" في ما تبقى من وحدات صحية متهالكة لم يطالها قطار البيع بعد، في تكريس لطبقية مقيتة في "جمهورية السيسي الجديدة".

 

مذبحة للأطباء.. القانون يحمي "المستعمر الجديد" ويسحق الطواقم الطبية

 

أخطر ما في هذه الصفقة هو الغطاء التشريعي الذي وفره النظام لها. فقانون "تأجير المستشفيات" يعطي المستثمر الأجنبي صلاحيات "الحاكم بأمره" داخل المستشفى؛ فهو لا يملك فقط الحق في تحديد أسعار الخدمات، بل يملك أيضاً الحق في الإطاحة بـ 75% من الأطقم الطبية والإدارية المصرية الحالية، حيث لا يلزم القانون المستثمر إلا بالحفاظ على 25% فقط من العمالة.

 

وهي النقطة التي فجرها الدكتور إيهاب الطاهر، الأمين العام السابق لنقابة الأطباء، الذي أكد أن القانون يمثل "تهديداً مباشراً لاستقرار الأطقم الطبية"، موضحاً أن السماح للمستثمر بالاستغناء عن ثلاثة أرباع العمالة يعني تشريد الآلاف من الأطباء والممرضين والإداريين، أو إجبارهم على العمل بنظام "السخرة" تحت تهديد الفصل، مما سيفاقم من أزمة هجرة الأطباء ويفرغ مصر من كوادرها الباقية.

 

نحن بصدد "تطهير وظيفي" و"مذبحة" للأطباء والممرضين المصريين الذين حملوا المنظومة الصحية على أكتافهم لسنوات وتحملوا الأوبئة والأزمات، ليتم استبدالهم أو إجبارهم على العمل بعقود إذعان مؤقتة، أو استقدام أجانب برواتب دولارية، بينما يتم تهجير الكفاءات الوطنية للخارج. النظام لا يبيع المباني فقط، بل يبيع "السيادة الطبية" ومعها الأمن الوظيفي لآلاف الأسر المصرية التي ستجد عائلها في الشارع بقرار من "الخواجة".

 

"ادفع لتعيش".. الدولة تنسحب وتترك الشعب للفاتورة

 

هذه التحركات تضرب بعرض الحائط المادة 18 من الدستور التي تكفل الحق في الصحة للجميع. فبينما يتباهى السيسي ببناء الجسور والقصور، يتضح أن أولوياته لا تشمل علاج الفقراء. تسليم المستشفيات الجاهزة -التي تم تطويرها بالفعل بمليارات من ديون الشعب وضرائبه- إلى شركة إيطالية لتديرها وتجني أرباحها "على الجاهز"، هو قمة الفساد الإداري والسياسي، واعتراف صريح بفشل الحكومة في الإدارة.

 

إن تحويل وزارة الصحة إلى "وزارة استثمار" ومقايضة آلام المرضى بصفقات اقتصادية مع روما، يؤكد أن هذا النظام لا يرى في المواطن سوى "زبون" أو "عبء" يجب التخلص منه. فبعد أن سلبوهم الغذاء والدواء برفع الأسعار وتحرير سعر الصرف، يسلبونهم اليوم سرير المستشفى المجاني، ليصبح الموت على أبواب المستشفيات الاستثمارية هو المشهد المتوقع في قادم الأيام، في ظل نظام يعتبر صحة المواطن "سلعة" تباع لمن يدفع أكثر.