في محاولة جديدة لامتصاص غضب الشارع المصري المتصاعد، خرج وزير الخارجية بدر عبد العاطي بتصريحات نارية تبدو في ظاهرها حازمة، معلنًا أن المسار التفاوضي مع إثيوبيا قد "انتهى عمليًا".
تأتي هذه التصريحات التي تلوح بـ "كافة الخيارات" بعد فوات الأوان، وكأن النظام المصري قد استيقظ فجأة ليكتشف أن أديس أبابا كانت تشتري الوقت طوال الخمسة عشر عامًا الماضية، بينما كانت القاهرة غارقة في "دبلوماسية حسن النوايا" التي لم تجلب للمصريين سوى العطش والتهديد الوجودي.
"كل الوسائل المتاحة".. سيف من خشب أم استراتيجية حقيقية؟
شدد الوزير عبد العاطي على أن الأمن المائي مسألة وجودية لا تقبل التهاون، مؤكدًا احتفاظ مصر بحقها في الدفاع عن النفس وفق القانون الدولي. لكن السؤال الذي يطرحه المراقبون بحدة: أين كانت هذه "الوسائل المتاحة" عندما كانت الخرسانة تُصب يوميًا في جسم السد؟ وأين كان "الحق في الدفاع عن النفس" عندما وقعت القاهرة على اتفاقية المبادئ عام 2015 التي منحت السد شرعية مجانية دون ضمانات ملزمة؟
إن الحديث الآن عن الخيارات العسكرية أو التصعيد القانوني يبدو وكأنه "جعجعة بلا طحن" موجهة للاستهلاك المحلي، في وقت أصبح فيه السد أمرًا واقعًا وحجزت إثيوبيا خلفه مليارات الأمتار المكعبة من مياه النيل.
إن اللجوء إلى لغة التهديد في الوقت الضائع لا يعكس قوة الموقف المصري بقدر ما يعكس حالة من "التخبط الاستراتيجي" ومحاولة للتغطية على العجز عن فرض أي معادلة ردع حقيقية طوال السنوات الماضية. القانون الدولي الذي يتشدق به الوزير لا يحمي المغفلين الذين تركوا مصالحهم الوجودية رهينة لمماطلات الخصم حتى اكتمل البناء.
الاعتراف بـ "الطريق المسدود".. حصاد الغفلة الاستراتيجية
تصريح الوزير بأن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود ليس خبرًا جديدًا للمواطن المصري الذي يتابع التعنت الإثيوبي منذ سنوات، بل هو "إقرار رسمي بالفشل". إن تصعيد اللهجة الآن والحديث عن أن مصر "لن تقف مكتوفة الأيدي" يطرح تساؤلاً جوهريًا: ماذا كانت تفعل الدبلوماسية المصرية طوال العقد الماضي؟ هل كانت الأيدي مكتوفة بالفعل بانتظار معجزة؟
تحاول الخارجية الآن تصوير الموقف على أنه "صبر استراتيجي"، لكن الواقع يشير إلى أنه كان "غفلة استراتيجية". فإثيوبيا التي تعاملت مع النهر كملكية خاصة لم تكن لتجرؤ على هذا النهج لولا قراءتها الدقيقة لردود الفعل المصرية الباهتة. حديث الوزير عن "النيل كنهر دولي مشترك" هو حديث قانوني سليم، لكنه بلا أنياب على أرض الواقع، حيث فرضت إثيوبيا سيادتها الكاملة، تاركة للقاهرة البيانات والخطابات الإنشائية.
الهروب إلى الأمام.. والغزل في الرياض
وفي سياق متصل، وبشكل يبدو كمحاولة للبحث عن ظهير إقليمي يستر عورة الموقف المتأزم، انتقل الوزير للحديث عن العلاقات المصرية السعودية، واصفًا إياها بـ "الأبدية" ومشيرًا إلى "تشاور يومي". هذا الربط في التوقيت يشي بحاجة النظام المصري الماسة للدعم السياسي والاقتصادي من الرياض في ظل الأزمات المتلاحقة.
الحديث عن "مجلس التنسيق الأعلى" والشراكة الاستراتيجية يأتي في وقت تحتاج فيه القاهرة ليس فقط للاستثمارات، بل لثقل سياسي يضغط على أديس أبابا، وهو ما لم يتحقق بالشكل المأمول حتى الآن.
تبدو الإشادة المفرطة بالعلاقات مع السعودية محاولة لتطمين الداخل بأن "لسنا وحدنا"، لكن الحقائق الجيوسياسية تؤكد أن مصر تواجه مصيرها المائي منفردة، وأن التعويل على التحالفات العربية التقليدية لحل أزمة السد قد أثبت عدم جدواه، فالمصالح تتشابك، وإثيوبيا ليست معزولة إقليميًا كما يصور الإعلام الرسمي.
خلاصة القول، إن تصريحات "عبد العاطي" ليست سوى محاولة يائسة لترميم صورة مهتزة أمام خطر داهم، فالمياه لا تجري في مجاريها بالتصريحات، والسدود لا تُهدم بالخطابات.

