لم تعد فوهة البندقية أو أقبية السجون هي الأدوات الوحيدة التي يستخدمها نظام الانقلاب في مصر لإسكات معارضيه، بل امتدت أذرعه الأخطبوطية لتعبث في قوانين ومبادئ دول كانت تتغنى يومًا بحرية التعبير. ما يحدث مع قناة "الشعوب" الفضائية، وبرنامج الإعلامي معتز مطر، ليس مجرد أزمة بث أو عطل فني، بل هو فصل جديد من "حرب إلغاء الآخر" التي يشنها الجنرالات، والتي نجحت للأسف في اختراق الجدار الأوروبي، محولة عواصم مثل لندن من ملاذات آمنة للكلمة إلى ساحات للملاحقة الأمنية وتكميم الأفواه.
التوقفات المتكررة للبث الفضائي للقناة، وآخرها القرار الصادم من وزارة الداخلية البريطانية بوقف البث لأسباب "أمنية"، تكشف عن رضوخ غربي مخزٍ لضغوط نظام القاهرة، الذي يبدو أنه أقنع حلفاءه الأوروبيين بأن "صوت معتز" أخطر من صفقات السلاح والهجرة غير الشرعية.
لندن تسقط القناع.. تواطؤ أمني ضد الكلمة
لطالما سوقت بريطانيا نفسها كقبلة للحريات، لكن إقدام وزارة داخليتها على وقف بث قناة "الشعوب" ينسف هذه السردية تمامًا. القرار الذي أجبر القناة على الاعتذار لمشاهديها يوم 10 ديسمبر والانسحاب من الأقمار الصناعية، هو اعتراف ضمني بأن "الأمن" في المفهوم البريطاني الجديد بات مرتبطًا بإرضاء الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط.
إن ما وصفه المراقبون بـ"الضربة القوية" للقناة، هو في الحقيقة ضربة لمصداقية الغرب. فكيف لقناة ترفع شعار مناهضة الانقلاب والاستبداد أن تُحاصر في أوروبا، بينما تفتح الأبواب والمنصات لأبواق النظام المصري التي تحرض على القتل والكراهية ليل نهار؟ التناقض صارخ، والرسالة وصلت: "لا مكان لمعارض حقيقي حتى في عاصمة الضباب".
معتز مطر.. الصوت الذي يطارد كوابيس الجنرال
رغم الملاحقات التي حولته إلى "إعلامي رحالة"، من القاهرة إلى إسطنبول، ومنها إلى لندن، وربما قريبًا إلى البرازيل أو أستراليا، يظل معتز مطر رقمًا صعبًا في المعادلة الإعلامية. الاعتراف الضمني بأن "لا قناة في العالم العربي أو الإقليمي تجرؤ على بث محتواه" هو وسام استحقاق لإعلامي رفض التدجين.
التوقفات التي شهدها برنامجه في أغسطس وسبتمبر 2025، والشائعات المستمرة حول توقيفه أو ترحيله، ليست صدفة. إنها حرب نفسية وقانونية تشنها أجهزة مخابراتية لا تريد لهذا الصوت أن يصل للبسطاء. ورغم هشاشة البنية المالية والقانونية للقناة نتيجة هذا الحصار، إلا أن لجوء مطر للمنصات الرقمية (يوتيوب وفيسبوك) يؤكد أن "الفكرة لا تموت"، وأن الجمهور الذي يبحث عن الحقيقة سيتبعها حتى لو بثت من كوكب آخر.
البحث عن "منفى" للبث.. عار يلاحق العالم الحر
أن تضطر قناة معارضة للبحث عن ملاذات في البرازيل أو أستراليا هربًا من "أوروبا الديمقراطية"، هو مشهد عبثي يلخص حالة العالم اليوم. لقد نجحت المصالح الاقتصادية والسياسية بين قادة الانقلاب والحكومات الأوروبية في تضييق الخناق على "الشعوب".
التقارير التي تتحدث عن نقل النشاط إلى دول بعيدة تعكس إصرارًا على البقاء، لكنها تفضح أيضًا حجم النفوذ الذي اشتراه النظام المصري بأموال الشعب لإسكات معارضيه في الخارج. فبعد أن أغلقت تركيا أبوابها أمام الإعلام المعارض تقاربًا مع القاهرة، ها هي لندن تلحق بالركب، لتثبت أن "حقوق الإنسان" ليست سوى ورقة مساومة سياسية.
خاتمة: معركة الوجود
تواجه قناة "الشعوب" اليوم أزمة وجودية حقيقية، لكنها ليست أزمة القناة وحدها، بل هي أزمة كل صوت حر يرفض الخضوع. نجاح النظام في قطع البث الفضائي هو انتصار مؤقت لـ"البلطجة الدبلوماسية"، لكن استمرار البث الرقمي وتفاعل الجمهور يؤكدان أن المعركة لم تنتهِ. فكلما زاد القمع، زاد صدى الصوت، ولن تستطيع قرارات الداخلية البريطانية ولا أمنيات النظام المصري حجب الحقيقة عن شعوب قررت ألا تنام.

