في مأساة جديدة تضاف إلى سجل الموت العبثي على شواطئ أوروبا، ابتلع البحر المتوسط 17 شاباً، بينهم مصريون، ولا يزال مصير 15 آخرين مجهولاً، بعد أن غرق قاربهم المتهالك قبالة جزيرة كريت اليونانية.
لم تكن هذه مجرد حادثة غرق، بل هي شهادة وفاة مكتوبة بماء البحر المالح ودم الشباب اليائس، تفضح عورة نظام يرى في بقاء شعبه عبئاً، وفي رحيلهم موتاً راحة. إنها مصر تحت حكم الانقلاب؛ وطن أصبح طارداً لأبنائه، حتى بات الموت في قوارب مطاطية خياراً أفضل من البقاء على أرضه.
من طبرق إلى كريت.. رحلة الموت المحتوم
الرحلة التي انطلقت من طبرق الليبية كانت فصلاً من فصول الجحيم. 34 شاباً، معظمهم مصريون وسودانيون، تكدسوا في قارب مفرغ الهواء من جانبيه، بلا طعام أو ماء أو حتى أغطية تقيهم البرد القارس. لم يقتلهم الغرق وحده، بل قتلتهم الظروف اللاإنسانية قبل أن يبتلعهم الماء.
شهادة الناجيين الاثنين تكشف أن المحرك تعطل، وأن العواصف والأمطار حاصرتهم، وأن الجفاف وانخفاض حرارة الجسم بدآ في حصد الأرواح حتى قبل أن ينقلب القارب. هذه ليست "هجرة غير شرعية"، بل هي عملية انتحار جماعي يائسة، هرباً من واقع أشد مرارة من الموت غرقاً.
بيان رسمي باهت.. ودم مصري رخيص
بينما كانت سفن خفر السواحل اليونانية ووكالة "فرونتكس" الأوروبية تجوب البحر بحثاً عن جثث وأحياء، كان الصمت هو سيد الموقف في القاهرة. لا يزال النظام المصري يتعامل مع مآسي شبابه المهاجرين كأرقام في تقارير إخبارية، أو كمسؤولية أمنية تقع على عاتق دول أخرى.
إن حياة المواطن المصري في الخارج، خاصة إذا كان فقيراً هارباً من جحيم البطالة والقمع، لا تساوي ثمن الحبر الذي قد يُكتب به بيان إدانة خجول. هذا الصمت الرسمي ليس مجرد إهمال، بل هو رسالة واضحة بأن من يغادر البلاد بهذه الطريقة، فقد أسقط عن نفسه حق المواطنة، وأصبح دمه رخيصاً وموته لا يستدعي حتى العزاء.
لماذا يهرب الشباب؟.. وطن يلفظ أبناءه
السؤال الذي يجب أن يُطرح ليس "لماذا غرق القارب؟"، بل "لماذا ركب هؤلاء الشباب القارب من الأساس؟". الإجابة تكمن في مصر التي بناها نظام الانقلاب. مصر التي تُنفق فيها المليارات على قصور رئاسية ومشاريع دعائية، بينما يعجز شبابها عن إيجاد فرصة عمل كريمة أو تأسيس أسرة.
مصر التي يُسجن فيها أصحاب الرأي، ويُكمم فيها الإعلام، وتُغلق فيها كل أبواب الأمل. حين يصبح الأفق مسدوداً، والفقر واقعاً، والكرامة حلماً بعيد المنال، فإن قوارب الموت التي تنطلق من ليبيا لا تبدو كخيار، بل كضرورة حتمية للفرار من سجن كبير اسمه الوطن.
جثث على الشواطئ.. وصورة مصر الغارقة
إن جثث الشباب المصري التي تطفو على مياه المتوسط أو تُلقيها الأمواج على الشواطئ اليونانية، ليست مجرد ضحايا لمأساة فردية، بل هي الصورة الحقيقية لمصر الغارقة تحت وطأة الفساد والقمع وفشل الدولة.
كل شاب يركب هذا القارب هو إدانة متحركة لنظام حوّل أرض الكنانة إلى مقبرة للأحلام. لم يغرق هؤلاء الشباب قرب كريت، بل بدأ غرقهم الحقيقي يوم أن استولى العسكر على مستقبلهم، وأخبروهم صراحة أن هذا الوطن ليس لهم.

