بينما يتغنى إعلام السلطة بشعارات «الجمهورية الجديدة» و«الاستثمار في الإنسان المصري»، يقف عشرات الآلاف من معلمي الحصة في طوابير الذل، في انتظار فتات مستحقات متأخرة عن شهور كاملة من العمل داخل الفصول. هؤلاء لم يطلبوا منّة ولا منحة، بل مجرد أجر زهيد مقابل حصص درسوها بالفعل، استدعتهم الوزارة لسد عجز صنعته بنفسها عبر سياسات التعيين والتسريح، ثم تركتهم بلا راتب ولا أمان وظيفي.
اعتراف وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني بتأخر صرف مستحقات معلمي الحصة في عدد من المديريات، ليس «خطوة إيجابية» كما تحاول الحكومة تسويقه، بل هو إقرار رسمي بأن التعليم في مصر يُدار بمنطق المقاولة الرخيصة؛ تستعين السلطة بالمعلمين عند الحاجة، ثم تلقي بهم تحت عجلات البيروقراطية.. وربما تحت خط الفقر أيضًا.
اعتراف متأخر.. وإهانة مبكرة
تقول وزارة تعليم الانقلاب في بيانها إن «أغلب» المديريات انتهت من صرف مستحقات شهري سبتمبر وأكتوبر لمعلمي الحصة، وإن مخصصات شهر نوفمبر «يتم تحويلها حاليًا» تمهيدًا لصرفها.
مجرد استخدام تعبيرات من نوع «أغلب المديريات» و«يتم حاليًا» يكشف حجم الفوضى؛ فهذه ليست مكافآت موسمية، بل أجر عن عمل فعلي داخل الفصول، كان يفترض أن يُصرف بانتظام شهري، لا بعد شهور من التسويف.
الأخطر أن الوزارة تقدم نفسها كمنّة على المعلمين: «نحن نتابع بدقة»، «نحول المخصصات»، وكأن المشكلة في تأخر الحوالات البنكية، لا في نظام كامل قائم على استغلال معلمي الحصة كعمالة رخيصة بلا حقوق حقيقية.
آلاف الشكاوى.. وصفر احترام
الواقع أن بيان الوزارة لم يأتِ من فراغ؛ بل جاء بعد انفجار آلاف الشكاوى من معلمي الحصة في مختلف المحافظات، يطالبون فيها بمستحقاتهم المتأخرة، بعدما تم الاستعانة بهم لسد العجز في رياض الأطفال والمواد غير الأساسية، بل وحتى في التعليم الفني في بعض التخصصات.
الوزارة تعرف جيدًا أن العام الدراسي لا يمكن أن يستمر دون هؤلاء؛ فهم يسدون ثغرات ضخمة في الجدول المدرسي، ومع ذلك تُرغمهم على العمل بنظام «اليومية المقنعة»: حصص بلا عقود حقيقية، بلا تأمين، بلا ضمان للاستمرار، وبلا أجر في موعده.
حين تضطر فئة مهنية كالمعلمين إلى اللجوء إلى الشكاوى الجماعية، وصفحات التواصل، والاستغاثة الإعلامية من أجل تحصيل أبسط حقوقهم، فهذا يعني أن العلاقة بين الدولة والمعلم انقلبت رأسًا على عقب: لم يعد المعلم شريكًا في بناء الأجيال، بل مجرد «عامل موسمي» يمكن الاستغناء عنه أو تجويعه في أي لحظة.
«لكم الحق الكامل».. لكن بلا فلوس
الإدارة المركزية لشئون المعلمين خرجت لتقول إن جميع المعلمين المستعان بهم بنظام الحصة «لهم الحق الكامل في صرف مستحقاتهم المالية نظير ما قدموه من عمل».
هذه الجملة في ذاتها إدانة لا دفاع؛ فما الحاجة إلى تذكير الناس بأن من يعمل له «حق كامل» في أجره، إلا إذا كانت الوزارة نفسها تعاملهم كما لو كانوا متطوعين؟ الاعتراف بالحق لا يساوي شيئًا ما دام الأجر لا يصل إلى الجيب في موعده.
الحق يُصان بإجراءات ملزمة واضحة: عقود، جداول صرف معلنة، جزاءات على المديريات المتأخرة، لا ببيانات إنشائية تكرر خطاب «التقدير والاحترام» في الوقت الذي يضطر فيه المعلم إلى الاستدانة لتغطية مصاريف المواصلات والطعام.
صندوق الدعم.. شاهد إثبات على الإفلاس
إعلان مجلس إدارة صندوق دعم وتمويل وإدارة وتشييد المشروعات التعليمية عن اعتماد «دعم إضافي» لصالح الوزارة للمساهمة في سداد جزء من مستحقات معلمي الحصة، يكشف عن مأساة مضاعفة.
أولًا: مجرد اللجوء إلى صندوق الدعم لتسديد الأجور يؤكد أن بند رواتب هؤلاء لم يكن مخططًا له بجدية في الموازنة، وأن الاستعانة بهم تمت بعقلية «شوف لنا أي حل دلوقتي وبعدين ربنا يسهل».
ثانيًا: الحديث عن «المساهمة في سداد جزء من المستحقات» يعني أن ما لم يُدفع حتى الآن أكبر بكثير، وأن آلاف المعلمين ما زالوا ينتظرون ما تبقى من حقوقهم بينما تتحدث الحكومة عن «تحسين أوضاع المعلم» في مؤتمراتها.
تعليم على هامش السلطة.. ومعلمون تحت خط الكرامة
قصة معلمي الحصة ليست تفصيلاً إدارياً صغيراً، بل مرآة لوضع التعليم كله تحت حكم الانقلاب. دولة تعتبر المعلم عبئًا مالياً، لا استثمارًا بشريًا؛ تستدعيه عند الحاجة لسد العجز، ثم ترميه خارج الحساب حين يأتي وقت دفع الأجور.
في بلد تحترم نفسه، تأخير راتب المعلم لشهر واحد فضيحة سياسية تستوجب الاستقالة؛ أما في «الجمهورية الجديدة» فيمكن أن يعمل المعلم ثلاثة أشهر متتالية بلا أجر، ثم يُقال له في بيان رسمي: «اطمئن.. لك الحق الكامل في مستحقاتك»!
هكذا يتحول المعلم من رمز للهيبة والاحترام إلى نموذج للعامل المقهور؛ يشرح لتلاميذه في الكتب معنى العدالة والحقوق، ثم يخرج من الفصل ليبحث عن سلفة يسد بها إيجار البيت وثمن المواصلات. هذه ليست مجرد أزمة مستحقات، بل جريمة أخلاقية وسياسية ارتكبتها حكومة الانقلاب في حق من يفترض أنه عمود المجتمع الأول: المعلم.

