في الساعات الأخيرة انتشرت مقاطع فيديو مصورة من داخل المتحف المصري الكبير تُظهر كميات من المياه تغطي أرضيات البهو، في مشهد يبدو معه تمثال رمسيس الثاني وكأنه محاصر ببرك الأمطار داخل صرح يفترض أنه «أحدث متحف في العالم».
هذه المشاهد جاءت من متحف تتراوح تقديرات تكلفته بين أكثر من مليار دولار وقد تقترب من ملياري دولار وفق تصريحات رسمية وإعلامية متباينة، ما بين تقارير تؤكد تجاوز التكلفة لحاجز المليار وأخرى تتحدث عن تمويل ضخم بقروض يابانية ومساهمات حكومية.
بدل أن يكون الحديث عن كنوز توت عنخ آمون ورمسيس وأمنحتب، أصبحت السخرية الشعبية تدور حول «دش رمضان» الذي يتلقاه الفراعنة من سقف متحف كلّف ما يكفي لإخراج ملايين المصريين من الفقر لو أُنفِق في مكانه الصحيح.
قال متكلفين 2 مليار دولار ع المتحف المصري الكبير .. يلي خلي رمسيس و أمنحوتب يتروشوا و يفرفشوا pic.twitter.com/OLPcnbwYnQ
— Bilal Aljaber (@bilal_aljaber18) December 11, 2025
متحف بمليارات في دولة متهالكة
المتحف المصري الكبير قُدِّم كأيقونة «الجمهورية الجديدة»، ومشروع القرن الذي سيحوّل منطقة الأهرامات إلى قبلة للسياحة العالمية بتمويل يتجاوز المليار دولار وبنية تحتية يفترض أنها على أعلى مستوى تقني.
لكن مشاهد تسرب المياه داخل بهوه الرئيسي، بالتزامن مع بيانات رسمية تحاول التهوين من الواقعة والتأكيد أن التمثال لم يتضرر وأن كل شيء «تحت السيطرة»، تكشف عقلية سلطة تنفق ببذخ على الواجهة وتوفر في أبسط معايير الأمان والصيانة التي تحمي الآثار نفسها.
حين يتحول أكثر مشاريع النظام كلفة ورمزية إلى مسرح لتسريب مياه، تتجسد سياسة حكومة الانقلاب التي تدهس الحاضر اقتصادياً، ثم تمتد يدها إلى الماضي لتشوّه صورته وتعبث بمكانته، فلا يبقى من المشروع إلا مشاهد الفضيحة على الشاشات.
تزامن مهين مع فضيحة اللوفر
في التوقيت نفسه تقريباً انفجرت فضيحة عالمية في فرنسا بعد تسرب مياه ملوثة إلى مكتبة قسم الآثار المصرية بمتحف اللوفر، ما أدى إلى تلف نحو 400 كتاب ووثيقة نادرة متعلقة بالحضارة المصرية القديمة، وفق تقارير صحفية غربية ومصرية.
هكذا وجد العالم نفسه أمام مشهد مزدوج: في باريس تُغرق المياه تراث مصر الورقي داخل أكبر متحف في العالم، وفي القاهرة تتسرب المياه داخل المتحف الذي قيل إنه بُني لحماية كنوزها إلى الأبد، في لقطة واحدة تلخص كيف تُهان هذه الحضارة بين إهمال إدارات أجنبية وجنون مشروعات استعراضية لسلطة انقلابية.
هذا التزامن يمنح أي معارض مادة ثقيلة؛ فبين لوفر يعتذر ويعلن عن خطط إنقاذ عاجلة، وسلطة انقلاب في القاهرة تكتفي ببيانات إنكار وتبرير، تتضح الفجوة بين من يتعامل مع التاريخ كقيمة يجب إنقاذها، ومن يتعامل معه كديكور دعائي يصلح للمؤتمرات والجولات التلفزيونية فقط.
دهس التاريخ على طريقة «الجمهورية الجديدة»
تعامل الحكومة مع الفضيحة لا يختلف عن تعاملها مع الفقر والبطالة وحقوق العمال: إنكار، تجميل، ثم تحميل المسؤولية لعوامل جوية أو «ظروف استثنائية»، مع استمرار ضخ المليارات في مشروعات الخرسانة والافتتاحات التلفزيونية بينما تُترك صيانة المتاحف والمكتبات والآثار لقدرها.
إن افتراض صحة مشهد «استحمام رمسيس» داخل المتحف المصري الكبير، مقروناً بما حدث لمقتنيات الحضارة المصرية في اللوفر، يرسم لوحة لسلطة لا تكتفي بسحق الحاضر الاجتماعي والاقتصادي، بل تذهب أبعد من ذلك إلى إغراق الماضي نفسه في مياه الإهمال والفساد وسوء التخطيط، في واحدة من أكثر صور الإهانة لسبعة آلاف عام من التاريخ المصري.

