عندما يخرج مصطفى بكري ليصف قرار قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي بعلاج كبار الفنانين على نفقة الدولة بأنه "قرار إنساني يستحق الشكر"، ويعتبره "رد اعتبار للمبدعين"، فإن السؤال الذي يفرض نفسه ليس عن الفنانة عبلة كامل أو غيرها من الفنانين، بل عن الملايين من أبناء هذا الشعب الذين لا يجدون سريرًا في مستشفى، ولا دواءً في وحدة صحية، ولا طبيبًا متفرغًا في قرية نائية أو حي شعبي.

 

إذا كان علاج بعض الفنانين يحتاج إلى قرارات رئاسية وإشادة إعلامية، فأين قرارات علاج المعلمين، والعمال، والموظفين، والفلاحين، وكل من خدموا هذا البلد في صمت؟ وأين حق عموم المصريين في منظومة صحية آدمية، بدل طوابير الإهمال والإذلال على أبواب المستشفيات الحكومية؟

 

 

قرار "إنساني" بإخراج إعلامي فج

 

مصطفى بكري، الذي تحول منذ سنوات إلى صوت السلطة ولسانها الدعائي، لم يفوّت فرصة ليصنع من قرار فردي للسيسي منصة مدح جديدة، وكأن علاج المواطنين حق استثنائي يحتاج إلى منحة من الحاكم، لا حقًا دستوريًا وإنسانيًا يجب أن يتمتع به الجميع دون تمييز.

 

حين يقول بكري إن قرار السيسي "قرار إنساني يستحق الشكر"، يتجاهل عمدًا أن:

 

  • الدولة تقتطع ضرائب من رواتب المعلمين والموظفين وأصحاب الحرف، ولا توفر لهم رعاية صحية حقيقية.
  • ملايين البسطاء يضطرون للاستدانة أو بيع ممتلكاتهم البسيطة لعلاج مريض واحد من الأسرة.
  • أقسام الطوارئ في المستشفيات العامة مكتظة، بلا إمكانيات، وبلا أطباء كافين، وبنقص حاد في الأدوية والأجهزة.

 

الإنسانية لا تُقاس بعدد القرارات التي تُعلن عبر الإعلام، بل بحال المستشفيات في القرى، وباحترام كرامة المريض الفقير عندما يطلب حقه في العلاج، فلا يُهان، ولا يُترك على نقالة في ممر.

 

 

أين المعلمون وكل من خدموا هذا البلد؟

 

إذا كان الفنان – مع كامل التقدير للفن الحقيقي – قدم إبداعًا، فإن المعلم قدم أجيالًا كاملة، والعامل قدّم عرقه في المصانع، والفلاح قدّم غذاء هذا الشعب لعقود. فلماذا لا يسمع هؤلاء عن "قرارات إنسانية رئاسية" بعلاجهم؟
المعلم اليوم:

 

  • يتقاضى راتبًا لا يكفيه لأسبوع، فكيف يتحمل تكلفة عملية جراحية أو علاج مزمن؟
  • يعمل في فصول مكتظة بلا تهوية ولا تجهيزات، معرضًا للأمراض بلا حد أدنى من التأمين الصحي الفعلي.
  • يواجه منظومة تستهلكه ثم تتجاهل مرضه وشيخوخته، وكأن سنوات خدمته كانت بلا قيمة.

 

أين مصطفى بكري من معلم يدخل مستشفى حكومي فيُطلب منه شراء الشاش والحقن والدواء من صيدلية خارجية؟ أين خطاب "القرار الإنساني" حين يفترش مريض المعاش الأرض في ممر مستشفى لأنه لا يجد سريرًا؟

 

منظومة صحية تنهار… وإعلام يغطي على الجثة

 

الواقع اليوم في كثير من المستشفيات الحكومية والوحدات الصحية الريفية صادم:

 

 

  • وحدات صحية بلا أطباء دائمين، أو تفتح لساعات محدودة ثم تُغلق.
  • أجهزة معطلة لسنوات، رغم صفقات بالمليارات على مشروعات استعراضية.
  • نقص أدوية حيوية، وارتفاع أسعار العلاج في المستشفيات الخاصة بشكل يجعلها حكرًا على الأغنياء.

 

بدل أن يناقش مصطفى بكري ومن على شاكلته هذه الكوارث، يختزلون قضية حق العلاج في لقطة علاقات عامة: "السيسي يعالج فنانة كبيرة على نفقة الدولة". وكأن ملايين المرضى الآخرين لا يستحقون حتى أن تُذكر أسماؤهم، أو أن يُنظر في ملفاتهم.

 

انتقائية في "الرحمة" وتمييز في "الإنسانية"

 

السلطة التي لا تتحرك إلا عندما يكون المريض فنانًا مشهورًا، أو حالة يمكن توظيفها إعلاميًا، هي سلطة تمارس انتقائية فجّة في الرحمة، وتمييزًا قاسيًا في إنسانية من تحكمهم.

 

 

  • لماذا لا يكون علاج أصحاب الأمراض المزمنة، وكبار السن من المعلمين، والعمال، والموظفين، قضية دولة لا قضية فردية؟
  • لماذا تتحول قرارات العلاج إلى مادة دعائية، بدل أن تكون ثمرة سياسة صحية عادلة للجميع؟
  • لماذا لا يخرج مصطفى بكري ليهاجم انهيار المستشفيات في الصعيد، أو نقص الأطباء في قرى الدلتا، كما يخرج ليمدح قرارًا فرديًا معزولًا؟

 

هذه الانتقائية تكشف جوهر النظام: لا قيمة حقيقية للإنسان الفرد إلا بقدر قيمته في الصورة الإعلامية، أو مدى قدرته على خدمة رواية السلطة عن "الإنجازات والإنسانية".

 

بين واجب الدولة و"منح الحاكم"

 

علاج المواطنين ليس تفضّلًا من الحاكم، ولا منحة من الرئيس، ولا مكرمة من نظام يسيطر على كل موارد البلد، بل حق أصيل مقابل ما يدفعه الناس من ضرائب، وما يقدّمونه من جهد وعرق لسنوات.

 

أما تحويل الحق إلى منحة، والواجب إلى "قرار إنساني"، فهو جوهر خطاب الاستبداد:

 

  • استبدال مفهوم العقد الاجتماعي بمفهوم "الإحسان من الحاكم".
  • تحويل المواطن من صاحب حق إلى متسوّل امتياز.
  • صناعة أصنام إعلامية تبرر كل هذا، على رأسهم أبواق مثل مصطفى بكري.

 

ما لم تُطرح قضية الصحة كحق شامل، وما لم يُسأل النظام عن سبب انهيار المنظومة الصحية بدل التصفيق لقرار هنا أو هناك، سيبقى المعلم والموظف والعامل والفلاح والطالب بلا حماية حقيقية، بينما تُصنع من كل حالة علاج لفنان أو شخصية عامة ملحمة إعلامية تُستغل لتلميع نظام أفشل أبسط ملفات حياة الناس.