في الوقت الذي تغرق فيه مصر في أسوأ أزمة عملة منذ عقود، يواصل قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي وحكومته البحث المحموم عن أي منفذ يدر دولارًا واحدًا، حتى لو كان الثمن استنزاف مدخرات المصريين بالخارج وبيع ما تبقى من أصول ومدن الدولة على الورق.
مبادرة «بيتك في مصر» التي تروج لها الحكومة كخدمة للمغتربين، ليست في حقيقتها إلا أداة جباية جديدة، تستهدف جمع نحو 4.9 مليار جنيه عبر بيع أقل من ألف وحدة في مرحلة واحدة، مقابل “تسهيل” وحيد: ادفع بالدولار لتُنقذ ميزان المدفوعات والديون لا لتضمن مستقبلك.
هذه المبادرة، التي تتفاخر بها وزارتا الإسكان والخارجية، تكشف حجم الاختناق المالي الذي تعيشه السلطة، وتعري منطقها المعهود: كل أزمة تتحول إلى فرصة للجباية، وكل مواطن في الداخل أو الخارج يُعامل كـ“حصالة عملة صعبة” يجب كسرها عند أول ضائقة.
بيع الوهم: إقبال ضخم على وحدات محدودة
وفق مصادر بوزارة الإسكان لموقع "المنصة"، تجاوزت طلبات شراء وحدات مبادرة «بيتك في مصر» المطروحة في المرحلة الثالثة عدد الوحدات الفعلية بأكثر من 10 أضعاف، مع تمركز أغلب الطلبات في العاصمة الإدارية الجديدة ومنطقة ماسبيرو.
لكن خلف هذه الأرقام “المبهرة” تكمن حقائق صادمة:
- الحكومة طرحت 892 وحدة فقط في المرحلة الثالثة، لكنها تروج لطلب يفوق العرض عشر مرات، في محاولة لصناعة انطباع كاذب بـ“النجاح الساحق”.
- التركيز على العاصمة الإدارية ومثلث ماسبيرو ليس صدفة، بل استمرار لسياسة دفع السوق قسرًا نحو مشروعات السلطة ذات الطابع الدعائي والسياسي، حتى لو كان ذلك على حساب المدن القديمة واحتياجات السكن الحقيقية للمواطنين.
- ما يراه البعض “فرصة استثمارية” للمغترب، تراه الحكومة في المقابل حبل نجاة مؤقتًا لتوفير بضعة ملايين من الدولارات تسد بها فجوة عاجلة، دون أي رؤية لإصلاح السبب الحقيقي للأزمة.
الدولار إجباري.. والجنيه مجرد رقم على الورق
الأخطر في المبادرة ليس في عدد الوحدات، بل في آلية السداد التي تعكس منطق السلطة في التعامل مع العملة الوطنية والمصريين في الخارج:
- شرط السداد بالدولار الإجباري عند قبول الطلب، بينما يتم التسعير بالجنيه فقط “على الورق”.
- عند دفع مقدم الحجز أو الأقساط، يُحتسب المبلغ وفقًا لسعر صرف الدولار في حينه، بما يعني أن المغترب لا يعرف الكلفة الفعلية مسبقًا، وأن الحكومة تحمي نفسها من تقلبات سعر الصرف على حسابه.
- في المقابل، لا توفر الحكومة أي ضمانات حقيقية ضد تعطل المشروعات أو تأخر التسليم أو تدهور قيمة الأصل في ظل انهيار القدرة الشرائية للجنيه وتضخم عشوائي في أسعار العقارات.
بهذه الصيغة، يتحول المصري بالخارج إلى ممول مباشر لأزمة العملة، بلا أي شفافية حول مصير أمواله أو استدامة المشروع، بينما تتهرب الحكومة من الاعتراف بجذر الأزمة: سياسات الاقتراض المفرط، والمشروعات الضخمة بلا جدوى اقتصادية حقيقية، وانهيار الصناعة والإنتاج.
العاصمة الإدارية وماسبيرو: تعويم الفشل عبر أموال المغتربين
طرح 62 وحدة تجارية وطبية في العاصمة الإدارية بأسعار تصل إلى 10 ملايين جنيه، مع أنظمة تقسيط و"جدية حجز"، يعكس محاولة مكشوفة لإنعاش مشروع فقد زخمه محليًا وتحوم حوله أسئلة ضخمة عن جدواه.
المشهد في ماسبيرو ليس أفضل حالًا:
- منطقة تاريخية تم تفريغها من سكانها لصالح مشروع تطوير فاخر يستهدف شريحة محدودة، بينما يُستخدم خطاب “التطوير” لتبرير الإخلاء والتهجير.
- الآن تُعاد تعبئة هذه المنطقة كوحدات “استثمارية” للمصريين بالخارج، في إطار مبادرة عملة صعبة، بدل أن تكون نموذجًا للعدالة العمرانية وتعويض الأهالي وتحسين حياة السكان الأصليين.
هكذا يكتمل المشهد: مشاريع كبرى مثيرة للجدل، تُغطّى فجواتها التمويلية بمدخرات ملايين المصريين في الخارج، تحت لافتة “وطنية” جوفاء.
من خدمة للمغترب إلى ابتزاز سياسي–اقتصادي
الحكومة تقدم المبادرة باعتبارها “استجابة لمطالب المصريين بالخارج”، وتستند إلى بروتوكول مشترك بين وزارتي الإسكان والخارجية والهجرة منذ فبراير الماضي، يتضمن طرح 5 آلاف وحدة بمستويات مختلفة في عدد من المدن الجديدة، مع “تسهيلات” في الأسعار والسداد.
لكن القراءة السياسية والاقتصادية تقول العكس:
- التوقيت جاء متزامنًا مع اشتداد أزمة نقص الدولار، وتراجع تحويلات المصريين بالخارج، ما يعني أن الهدف الرئيس هو تعويض تراجع الثقة في النظام المصرفي والسياسات المالية.
- ربط الخدمة بالسداد بالعملة الأجنبية فقط هو رسالة غير معلنة: دورك كمصري في الخارج ليس المشاركة في التنمية أو الاستثمار الحقيقي، بل تمويل العجز وإنقاذ الاحتياطي الأجنبي مهما كان الثمن.
- بدل أن تعالج السلطة أسباب هروب الاستثمارات وتراجع التحويلات – من غياب الثقة وسيطرة الأجهزة على الاقتصاد وقمع الحريات – تلجأ إلى “تسليع” حق السكن والعودة والاستثمار للمغترب.
أزمة نظام لا أزمة إسكان
مبادرة «بيتك في مصر» ليست مجرد مشروع إسكان فاخر أو متوسط، بل مرآة واضحة لنهج حكم كامل:
- اقتصاد يدار بعقلية “الصفقة السريعة” لا برؤية تنموية حقيقية.
- دولة تفضّل بيع الوحدات على إصلاح التعليم والصحة والإنتاج.
- سلطة تبحث عن الدولار بأي ثمن، حتى لو كان الثمن تعميق الفجوة بين المصري في الداخل والخارج، وتحويل العلاقة بينهما وبين الدولة من رابطة مواطنة إلى معاملة تجارية بحتة.
في ظل هذا النهج، لن تكون «بيتك في مصر» سوى حلقة جديدة في سلسلة “المبادرات” التي تحلب ما تبقى من موارد المجتمع، بينما يبقى أصل المرض السياسي والاقتصادي بلا علاج، وتتجدد الأزمة مع كل موجة تعويم جديدة وكل مشروع استعراضي جديد، تدفع ثمنه الأجيال القادمة لا واضعو هذه السياسات.

