في لحظة نادرة، خرج رجل الأعمال نجيب ساويرس ليقول ما تحاول حكومة الانقلاب إخفاءه عن المصريين منذ سنوات؛ حيث دعا إلى رفع الحد الأدنى للأجور بشكل كبير، مؤكدًا أن الحد الأدنى اللازم لحياة المواطن يجب أن يتراوح بين 14 إلى 15 ألف جنيه. هذا الكلام لا يصدر عن معارض سياسي أو خبير اقتصادي مستقل، بل عن واحد من أكبر المستفيدين من السياسات الحالية، ما يجعل التصريح شهادة إدانة مكتملة الأركان بحق السلطة التي ترفع شعار "تحسين مستوى المعيشة" بينما تغرق أغلبية الشعب في الفقر والعوز.

 

إذا كان ملياردير مثل نجيب ساويرس يعترف بأن أقل ما يحتاجه المواطن كي يعيش حياة "عادية" هو 14 أو 15 ألف جنيه، فماذا يعني ذلك عن الحد الأدنى الرسمي الذي تحدده الحكومة؟ وماذا يعني عن ملايين الموظفين والعمال الذين لا يتجاوز دخلهم الشهري 3 أو 4 أو 6 آلاف جنيه في أفضل الأحوال؟ إنها ببساطة شهادة بأن الحكومة تحكم شعبًا بأجور جوع، لا بأجور كرامة.

 

شهادة من قلب معسكر السلطة


خطورة تصريح نجيب ساويرس أنه يصدر من قلب المعسكر الاقتصادي والسياسي المستفيد من بقاء النظام الحالي. هذا ليس صوت معارض يتهم ولاجئ إلى الفضائيات، بل صوت رجل أعمال ظل لعشر سنوات جزءًا من المشهد الذي يبرر للسياسات الاقتصادية، ويستفيد من المناقصات والمشروعات والبيئة الاستثمارية التي صنعتها السلطة العسكرية.
حين يقول هذا الرجل إن الحد الأدنى المنطقي للأجر 14–15 ألف جنيه، فهو عمليًا ينسف رواية الحكومة التي تتفاخر كل فترة برفع الحد الأدنى إلى 4 آلاف ثم 6 آلاف جنيه، وتقدمه كمنحة تاريخية وإنجاز غير مسبوق. كلام ساويرس يفضح أن هذه الأرقام الرسمية لا تصلح حتى لتغطية إيجار شقة متواضعة وفواتير أساسية، فضلًا عن طعام وعلاج وتعليم ومواصلات.


تصريح ساويرس يعرّي الكذب الرسمي عن "تحسن مستوى المعيشة" و"جني ثمار الإصلاح الاقتصادي"، ويكشف أن من بيدهم المال والنفوذ يعرفون تمامًا أن ما يتقاضاه المواطن العادي اليوم أقل بكثير من الحد الأدنى الإنساني، وليس فقط الحد الأدنى الاقتصادي.

 

حد أدنى هزيل وغلاء بلا سقف

 

حكومة الانقلاب تعلن أرقامًا للأجور تبدو على الورق "زيادة" مقارنة بالسنوات الماضية، لكنها تتجاهل عمدًا أن الجنيه نفسه انهار أمام الدولار، وأن الأسعار تضاعفت مرات ومرات. ما فائدة أن يكون الحد الأدنى للأجور 6 آلاف جنيه إذا كانت فاتورة السوبرماركت التي كانت 1000 جنيه أصبحت 4 آلاف، وإذا كان إيجار الشقة الذي كان 800 أصبح 3 آلاف، وإذا كانت تذكرة المواصلات، وكيلو اللحمة، وسعر الدواء، وكل شيء تقريبًا خرج عن سيطرة المواطن؟

 

الأخطر أن سياسات التعويم المتكرر للجنيه، ورفع الدعم، وفرض الضرائب والرسوم في كل خدمة، تمت دون أي رؤية حقيقية لحماية أصحاب الدخل المحدود. الحكومة فتحت جيوب المصريين لنهشها، ثم جاءت بعد ذلك لتتفاخر بأنها "رفعت الحد الأدنى" بضع مئات من الجنيهات، بينما القيمة الحقيقية لهذا الحد تتآكل يومًا بعد يوم.
في هذا السياق، يصبح كلام نجيب ساويرس عن 14–15 ألف جنيه أشبه بصفعة على وجه الحكومة، لأنه يضع أمام الناس رقمًا يعبر عن الحد الأدنى الفعلي للحياة، لا الحد الأدنى الورقي الذي تتاجر به السلطة في بياناتها.

 

من يدفع ثمن سياسات الانقلاب الاقتصادية؟

 

المصريون اليوم يدفعون ثمن مسار اقتصادي اختارته سلطة انقلابية قررت أن تبني عاصمة جديدة وجسورًا خرسانية عملاقة ومشروعات استعراضية، بدلًا من أن تستثمر في الصناعة والزراعة والتعليم والصحة. انفجرت الديون الخارجية إلى أرقام قياسية، وتفاقمت خدمة الدين، واضطرت الحكومة للجوء مرارًا إلى صندوق النقد الدولي بشروط قاسية، أبرز ضحاياها هو المواطن البسيط.

 

كل هذه السياسات كان ثمنها واضحًا: تضخم جنوني، عملة منهارة، ومستوى دخل لا يواكب أيًا من هذه المتغيرات. ومع ذلك تصر السلطة على الحديث عن "إنجازات تاريخية"، بينما يعترف واحد من كبار رجال الأعمال بأن الحد الأدنى الفعلي للعيش 14 أو 15 ألف جنيه، وهو رقم بعيد تمامًا عن متناول أغلب الموظفين في الجهاز الحكومي والقطاع الخاص.

 

المعادلة واضحة: حكومة الانقلاب تحمي مصالح فئة محدودة من كبار المستفيدين، بينما تُترك الغالبية لتصارع الغلاء بأجور لا تكفي لأسبوع واحد من حياة كريمة، ثم يُطلب من الناس الصبر والتحمل والتضحية من أجل "الوطن".

 

رفع الأجور أم تغيير السياسات من جذورها؟

 

دعوة نجيب ساويرس لرفع الحد الأدنى للأجور اعتراف مهم، لكنها لا تكفي. فالسؤال الأهم: من أين يأتي تمويل أي رفع حقيقي للأجور في ظل استمرار نفس السياسات التي صنعت الأزمة؟ كيف يمكن الحديث عن عدالة في توزيع الدخل بينما تستمر الامتيازات، والإعفاءات، والمشروعات غير المنتجة، والإنفاق البذخي على بنية استعراضية، لا على اقتصاد منتج؟

 

حكومة الانقلاب تحاول دائمًا أن تعالج النتائج لا الأسباب؛ تعطي زيادة شكلية في الأجور، ثم تسحبها أضعافًا عبر التضخم ورفع الأسعار والضرائب. ما لم تتغير الفلسفة الاقتصادية نفسها، وما لم يتم وقف نزيف الديون والمشروعات الوهمية، فإن أي حديث عن "تحسين الأجور" سيظل مجرد مسكن مؤقت، أو دعاية سياسية رخيصة.

 

في النهاية، تصريح نجيب ساويرس ليس مجرد رأي اقتصادي، بل وثيقة إدانة تُثبت أن المصريين يعيشون بأجور أقل بكثير من الحد الأدنى الإنساني الذي يعترف به حتى رجال أعمال السلطة أنفسهم. وهذه الحقيقة يجب أن تتحول إلى أداة وعي وغضب منظم، يطالب ليس فقط برفع الأجور، بل بمحاسبة من أوصلوا البلاد إلى هذا المستوى من الفقر، رغم كل ما تمتلكه من موارد وقدرات.