في الوقت الذي يطحن فيه الغلاء عظام المصريين، وتتآكل الطبقة المتوسطة تحت وطأة تضخم غير مسبوق، خرج قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي بتصريح صادم ينسف أي أمل في "جمهورية جديدة" مزعومة، قائلاً إن "تطور الدول قد يستغرق 100 عام". هذا التصريح ليس مجرد زلة لسان، بل هو إعلان رسمي عن الفشل، ومحاولة يائسة للهروب من استحقاقات الحاضر عبر ترحيل الأزمات إلى مستقبل لن يشهده أحد من الجيل الحالي. النظام الذي وعد بـ"بكرة تشوفوا مصر" و"أغنياء الحرب"، يخبر شعبه اليوم ببرود أن "الرخاء" مؤجل لقرن قادم، بينما يطالبه بدفع فواتير هذا الانتظار الطويل من لحمه الحي وقوت يومه.
العاصمة الإدارية: بذخ السلطة وفقر الشعب
المفارقة الصارخة التي تفضح زيف هذا الخطاب تتجلى في العاصمة الإدارية الجديدة. كيف لدولة تطلب من شعبها الصبر لمائة عام أن تنفق أكثر من 700 مليار جنيه في بضع سنوات على "واجهة زجاجية" في الصحراء؟ الحكومة التي تستأجر مباني وزاراتها في العاصمة الجديدة وتترك مقراتها التاريخية في القاهرة، ترتكب جريمة اقتصادية مكتملة الأركان.
إن مشروعات "الشو" مثل أكبر سارية علم، وأطول برج، وأكبر عجلة ترفيهية، وممرات مائية صناعية، ليست إلا "مسكنات بصرية" لا تطعم جائعاً ولا تستر عارياً. هذه المليارات التي أُهدرت على رفاهية السلطة ومقراتها، كان يمكنها أن تبني آلاف المصانع والمدارس والمستشفيات، لكن النظام اختار "اللقطة" على حساب "اللقمة"، وقرر أن يبني مجداً شخصياً من الخرسانة والديون، تاركاً الشعب يغرق في مستنقع الفقر.
اقتصاد الديون: رهن المستقبل للأجنبي
تحت حكم السيسي، تحولت مصر إلى "جمهورية الديون". الأرقام لا تكذب ولا تتجمل: الدين الخارجي قفز من 43 مليار دولار إلى أكثر من 165 مليار دولار، والدين الداخلي تجاوز 7 تريليونات جنيه. الكارثة الأكبر أن الدولة باتت تعمل كـ"جابي" لخدمة الدائنين؛ ففوائد الدين وحدها تلتهم أكثر من تريليون جنيه سنوياً، أي أكثر مما يُنفق على الصحة والتعليم مجتمعين.
هذا الواقع يعني أن المواطن المصري لا يعمل لبناء بلده، بل يعمل لسداد ديون لم يستفد منها، أنفقت على مشروعات لا تدر عائداً حقيقياً. سياسة "الاستدانة لسداد الدين" وضعت مصر في حلقة مفرغة، وجعلت القرار الاقتصادي رهينة لإملاءات صندوق النقد والمانحين الدوليين، مما أفقد الدولة سيادتها الاقتصادية.
"الأولويات المعكوسة": عندما يصبح الحجر أهم من البشر
مشكلة مصر ليست في قلة الموارد، بل في "سفاهة الإنفاق". النظام يرى التنمية في الكباري والأبراج، بينما يراها العالم في التعليم والصحة والصناعة. تجارب الدول التي نهضت (مثل رواندا وتركيا وماليزيا) لم تحتج إلى قرن من الزمن، بل احتاجت إلى رؤية وطنية وإدارة رشيدة وانحياز للإنتاج لا للاستهلاك التفاخري.
السيسي يريد أن يقنعنا بأن الفقر "قدر"، بينما هو "صناعة". صناعة تشرف عليها حكومة ترفع الدعم عن الخبز والوقود، وتزيد الضرائب والرسوم، ثم تنفق الحصيلة على مؤتمرات الشباب والقصور الرئاسية. إنها فلسفة "إفقار الشعب لإغناء الدولة"، ولكن الدولة هنا ليست الوطن، بل هي "السلطة" وأجهزتها.
مصر لا تحتاج قرناً.. تحتاج رحيل الفشل
حديث الـ 100 عام هو محاولة لشرعنة الفشل وتمديد أجل البقاء في السلطة بلا مساءلة. مصر لا تحتاج إلى قرن لتتطور، بل تحتاج إلى إدارة تضع "الإنسان" قبل "البنيان"، وتدرك أن الأمن القومي يبدأ من رغيف العيش وكرامة المواطن، لا من صفقات السلاح والمدن المسورة.
إذا استمرت هذه العقلية التي تحكم بالأوهام وتدير الاقتصاد بالقروض، فلن تخرج مصر من أزمتها ولو بعد ألف عام. الحل ليس في الزمن، بل في تغيير النهج الذي أوصلنا إلى حافة الهاوية، واستعادة الوطن من قبضة "اقتصاد العسكر" الذي لا يجيد سوى الجباية وبيع الوهم.

