إعلان هيئة السكك الحديدية بوزارة النقل بدء صرف نحو 700 مليون جنيه تعويضات نزع ملكية لـ866 فدانًا بمحافظة الجيزة، لتنفيذ مشروع خط سكة حديد “بني سلامة – 6 أكتوبر”، يبدو في الخطاب الرسمي كدليل على “حرص الدولة على حقوق المواطنين” و”أهمية المشروع القومي”. لكن الحساب البسيط يكشف وجهًا آخر للمعادلة: هذا المبلغ يعني أن سعر المتر الواحد لا يتجاوز تقريبًا 192.5 جنيه، في وقت تبيع فيه الدولة نفسها أراضي مشروعات الإسكان ومشروعات المدن الجديدة للمواطنين – حتى من يُوصف بأنه “محدود الدخل” – بأضعاف هذا الرقم بكثير.
866 فدانًا تعني نحو 3.64 مليون متر مربع تقريبًا. حين تُوزَّع عليها 700 مليون جنيه تعويضًا، يكون نصيب المتر أقل من 200 جنيه بقليل. هذا السعر لا يُرى في أي طرح جديد للأراضي أو الإسكان في محيط 6 أكتوبر والجيزة والمدن الجديدة، حيث تتراوح أسعار المتر في الإسكان المتوسط وما فوقه من آلاف إلى عشرات الآلاف، حتى في المشروعات التي تُسوَّق على أنها “مدعومة” أو “لذوي الدخل المحدود”. المواطن الذي يقتطع من قوته ليدفع أقساط شقة في مشروعات الدولة لا يحلم أبدًا بأن يحصل على متر واحد من الأرض بهذا السعر، لكن الدولة حين تنزع ملكية أرضه أو أرض جاره لصالح “مشروع قومي” لا تجد حرجًا في تسعيرها بهذا الرقم المتدني.
جوهر الاعتراض ليس على فكرة تطوير السكك الحديدية أو إنشاء خط جديد؛ فالبنية التحتية لقطاع النقل تعاني بالفعل من عقود من الإهمال وتحتاج إلى تحديث. المشكلة في الكيفية التي تُعامِل بها الحكومة أصحاب الأرض: تحويلهم إلى مجرد أرقام في كشوف تعويضات، بلا تفاوض حقيقي، بلا شفافية في التسعير، وبلا ربط بين قيمة التعويض وبين القيمة السوقية الفعلية للأرض بعد تنفيذ المشروع. من يملك الأرض اليوم سيُجبر على بيع المتر للدولة بـ192.5 جنيه، بينما قد يُعاد طرح نفس الأرض – بعد إدخالها في مخطط عمراني أو خدمي – بأسعار أضعاف أضعاف التعويض، سواء مباشرة من الدولة أو عبر شركات تابعة لها أو لمستثمرين يحصلون عليها لاحقًا.
هذه ليست حالة منفصلة عن نمط عام؛ فملفات نزع الملكية لصالح مشروعات الطرق المحورية أو التوسعات المختلفة، من توسعة الطريق الدائري إلى محاور جديدة، شهدت قصصًا مماثلة عن تعويضات تُدفع بأرقام متدنية، بينما يجري لاحقًا بيع أو استغلال نفس الأراضي ضمن مخططات مرتفعة القيمة. الفارق أن هذه المرة تكشف الأرقام ذاتها مدى الفجوة: مواطن يُنزع منه المتر بأقل من 200 جنيه، ومواطن آخر – غالبًا من نفس الطبقة أو أفقر – يُطلب منه دفع آلاف الجنيهات في المتر ليسكن في شقة صغيرة في مدينة جديدة يقال إنها “للفئات المتوسطة ومحدودة الدخل”. هكذا يتحول “المشروع القومي” من أداة تحسين حياة الناس إلى أداة إعادة توزيع للثروة من أسفل إلى أعلى.
اللغة الرسمية تتحدث عن “صرف التعويضات للمتضررين” وكأن القضية منتهية عند رقم الشيك. لكن أصحاب الأرض يرون في ما يحدث تعديًا على حقهم التاريخي، وإجبارًا مقنَّعًا على البيع بثمن بخس، تحت تهديد نزع الملكية بالقانون. الفارق بين المواطن والدولة هنا ليس فقط في القدرة على التسعير، بل في موازين القوة؛ فالدولة هي المشتري الوحيد المفروض، وهي من تقرر أن هذا المسار “منفعة عامة”، وهي من تحدد لجنة التقييم، وهي من تُصدر قرار النزع، وهي أيضًا من تتحكم لاحقًا في إعادة استغلال هذه الأرض. المواطن في هذه المعادلة إما أن يقبل أو يجد نفسه خارج أرضه، بلا قدرة حقيقية على الاعتراض.
من زاوية العدالة الاجتماعية، المنطقي – إن كانت الدولة جادة – أن يكون تعويض الأرض المنزوعة مساويًا أو قريبًا من متوسط السعر الذي تبيع به الدولة نفسها الأراضي في نفس النطاق الجغرافي، أو على الأقل أن يُفتح باب واضح لصاحب الأرض كي يحصل على أولوية في تخصيص بديل عادل داخل نفس المشروع أو في مشروع قريب بسعر التكلفة، لا أن يتحول إلى لاجئ اقتصادي يبحث عن قطعة أرض في الصحراء أو عن شقة بالإيجار بعد أن كان مالكًا أو مستأجرًا مستقرًا. هذا لا يحدث عمليًا إلا في حدود ضيقة جدًا، بينما تتحول معظم التعويضات إلى مبالغ لا تكفي لشراء بديل مناسب في سوق العقار المشتعل.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن فصل هذه القضية عن نمط أوسع من التعامل المتعالي مع المواطنين في ملفات الأرض والسكن: إزالة عشوائيات دون بدائل كريمة كافية، تهجير قسري من مناطق تعتبرها الدولة “ذات قيمة استثمارية أعلى”، توسعات في الطرق تتم على حساب أحياء كاملة، ثم يتم التفاخر إعلاميًا بالمحاور والكباري دون ذكر حقيقي لقصص الناس الذين دُفعوا إلى الهامش. قرار نزع 866 فدانًا في الجيزة وتعويض أصحابها كمثال واحد – مع أنه قد يمر في الإعلام الرسمي كخبر إيجابي – هو في واقع الحال حلقة في سلسلة طويلة من السياسات التي ترى في الأرض مجرد “رصيد” على الخريطة، لا موطن حياة لمجتمعات بشرية.
ثم إن التناقض وسطع أكثر حين نقارنه بما تقوله الحكومة عن “تكلفة المشروعات”. حين تريد السلطة تبرير أسعار شقق أو طرق أو جسور، تتحدث عن مليارات الإنفاق وتعويم الجنيه وارتفاع مواد البناء، وتطالب الناس بتفهُّم “سعر السوق الجديد”. لكن حين يتعلق الأمر بتعويض مواطن تُنتزع منه أرضه قسرًا، تختفي لغة السوق الحر و“التكلفة الحقيقية” ويحل محلها رقم استشاري من هيئة المساحة، لا يعكس بالضرورة قيمة الأرض بعد إدماجها في مشروع يرفع قيمتها عشرات المرات. هنا يظهر منطق مزدوج: سوق حر حين تبيع الدولة، وسوق مقيَّد حين تشتري.
وأخيرًا فان القضية ليست أن الدولة تنفذ مشروع سكة حديد جديدًا؛ فالبنية التحتية للنقل ضرورة، ولا ينكر أحد أن مصر تحتاج لربط أفضل بين أطرافها. المشكلة في أن هذا التطوير يتم بذهنية جباية واستعلاء: تُنتزع الأرض من أصحابها بتعويضات هزيلة، ثم يُعاد بيع نِتاج هذا التطوير أو ما يجاوره بأرقام فلكية على نفس الشعب الذي دُفع ثمنًا للأرض أول مرة. حكومة تشتري المتر من المواطن بـ192.5 جنيه ثم تبيعه له أو لغيره بآلاف الجنيهات في مشروعات الإسكان والكمبوندات، هي حكومة لا تحترم شعبها بل تمتهن ذله اقتصاديًا وقانونيًا. ما لم يُربَط مبدأ “المنفعة العامة” بعدالة تعويض حقيقية وحق فعلي في مشاركة الناس في ثمار هذه المشروعات، ستبقى كل “إنجازات” الطرق والسكك الحديدية مجرد واجهة إسفلت وحديد تخفي تحتها قصة أعمق: قصة نزع ملكية وتهجير طبقي، يزداد فيها الغني غنى والفقير فقرًا، وتتحول الدولة من حامٍ للمجتمع إلى خصم يتربص بأرضه وجيبه في كل مشروع جديد.

