في مشهد يندى له الجبين ويعكس بوضوح مدى الانهيار الأخلاقي والمؤسسي الذي وصلت إليه مصر في ظل حكم الانقلاب، تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو صادم من داخل عبد السلام محجوب في محافظة الإسكندرية، يظهر مجموعة من الطلاب "البلطجية" وهم يستهزءون بمعلمتهم داخل الفصل، ويرقصون حولها بحركات بذيئة، بل ووصلت بهم الوقاحة إلى حد إلقاء القمامة في مكتبها، وسط ضحكات هستيرية وغياب تام لأي رادع تربوي أو إداري.

 

هذه الواقعة ليست مجرد "حادث فردي" كما يحلو لإعلام النظام أن يروج، بل هي جرس إنذار مدوٍ يعلن وفاة العملية التعليمية إكلينيكياً، وسقوط هيبة المعلم التي داسها نظام العسكر بأقدامه عندما حول المدارس إلى ثكنات للجباية وأهمل التربية لصالح "اللقطة" والمشاريع الوهمية.


https://x.com/sherine412/status/1994175922774179875

 

"التحريض مدفوع الأجر".. ولي الأمر يشتري كرامة المعلمة!

 

الأكثر خطورة في هذه الفاجعة التربوية ما كشفته مصادر مقربة من الواقعة، حيث تبين أن هذا الاعتداء المهين لم يكن مجرد شغب طلابي عفوي، بل تم بتحريض مباشر من ولي أمر أحد الطلاب، الذي دفع أموالاً لهؤلاء الصبية لتوثيق إهانة المعلمة وكسر عينها داخل فصلها!

 

هنا تظهر الكارثة بكل أبعادها: عندما يصبح ولي الأمر -المفترض به أن يكون شريكاً في التربية- هو المحرض على البلطجة، وعندما يرى الطالب أن "المال" يمكنه شراء كرامة مربيته، فنحن أمام مجتمع تفككت أوصاله الأخلاقية بفعل سياسات نظام جعل من "البلطجة" أسلوب حياة، ومن "المال السياسي" و"النفوذ" اللغة الوحيدة المسموعة.

 

هذا الولي "البلطجي" لم يكن ليتجرأ على فعلته لولا أنه يعلم يقيناً أن الدولة غائبة، وأن القانون لا يحمي الضعفاء، وأن المعلم في مصر السيسي أصبح "الحيطة المايلة" التي يمكن لأي صاحب نفوذ أو مال أن يقفز عليها دون حساب.


https://x.com/mohhamdyEg/status/1994240089954672988

 

المدرسة "خرابة".. والوزير في "غيبوبة"

 

أين كانت إدارة المدرسة أثناء هذه "حفلة التعذيب النفسي" التي تعرضت لها المعلمة؟ أين المشرفون؟ أين الأمن الإداري؟

 

الواقع يؤكد أن مدارس مصر تحولت في عهد الانقلاب إلى "خرابات" تفتقر لأبسط مقومات الانضباط. فصول مكدسة، عجز صارخ في المعلمين، وإدارات مدرسية مكبلة بالبيروقراطية والخوف من "أولياء الأمور الواصلين".

 

وزارة التربية والتعليم، كعادتها، اكتفت ببيان هزيل تعلن فيه "بدء التحقيق". وكأن التحقيق سيعيد للمعلمة كرامتها المهدورة أمام طلابها، أو سيمحو المشهد المهين من ذاكرة الأجيال القادمة.

 

الوزير الذي ينشغل بتصريحات عن "التابلت" و"تطوير المناهج" الورقي، يتجاهل أن البنية الأساسية للتربية -وهي الأخلاق واحترام المعلم- قد انهارت تماماً تحت وطأة الفقر والتهميش الذي يعيشه المعلم المصري.

 

المعلم.. الضحية الأولى لجمهورية "الخوف والفقر"

 

لا يمكن فصل ما حدث في الإسكندرية عن السياق العام لوضع المعلم في مصر. هذا المعلم الذي يتقاضى فتاتاً لا يكفي قوت يومه، والذي يُجبر على الدروس الخصوصية ليعيش، كيف له أن يفرض هيبته أمام جيل يرى "التيك توك" و"المهرجانات" هي الطريق الأسرع للثروة والشهرة؟

 

نظام السيسي تعمد إهانة المعلم وتقزيم دوره، تارة بتجميد التعيينات لسنوات، وتارة بفرض "نظام التطوع" المهين، وتارة أخرى بتصريحات رئاسية تقلل من أهمية التعليم الأكاديمي.

 

النتيجة الحتمية هي ما نراه اليوم: معلم مكسور الجناح، وطالب مستهتر، وولي أمر بلطجي.

 

جيل "الضياع" من صناعة العسكر

 

ما حدث في مدرسة الإسكندرية هو نتاج طبيعي لسنوات من تجريف الوعي. نظام الانقلاب لا يريد تعليماً حقيقياً ولا تربية سليمة، لأنه يعلم أن الشعب المتعلم والواعي هو الخطر الأكبر على استمراره. هو يريد جيلاً "مغيباً"، بلا قيم ولا أخلاق، يسهل قياده وتوجيهه.

 

هؤلاء الطلاب الذين رقصوا على جثة هيبة معلمتهم هم ضحايا قبل أن يكونوا جناة. ضحايا لإعلام هابط، ولأسرة مفككة، ولدولة انسحبت من دورها التربوي وتركت الساحة للفساد والجهل.

 

إن استعادة هيبة المعلم لن تكون بقرارات فصل الطلاب لبضعة أيام، بل بإسقاط المنظومة الفاسدة التي أوصلتنا لهذا القاع. منظومة جعلت من "المدرسة" مسرحاً للعبث، ومن "المعلم" متسولاً، ومن "التعليم" سلعة لمن يدفع. ودون ذلك، انتظروا مزيداً من الكوارث في "جمهورية الضياع".