في تقرير صادم نشرته منظمة العفو الدولية، كشفت المنظمة كيف تفرض حكومة الانقلاب "قيودًا خانقة" على منظمات المجتمع المدني المستقلة عبر قانون الجمعيات رقم 149 لسنة 2019، محولة مصر إلى دولة بوليسية يخضع فيها كل شيء لسيطرة "الأمن الوطني". عنوان التقرير الفاضح "'اللي الأمن يقوله يتعمل': تقييد حرية تكوين الجمعيات المستقلة أو الانضمام إليها في مصر" يلخص بدقة واقع حال المجتمع المدني في ظل نظام عسكري لا يعترف بأي هامش للحرية أو الاستقلالية.

 

التقرير، المستند إلى مقابلات مع 19 شخصاً يمثلون 12 جمعية مستقلة، يفصّل كيف أن السلطات لم تكتفِ بتجاهل الدعوات لتعديل القانون التقييدي، بل استخدمته "لفرض متطلبات مرهقة والسماح للأجهزة الأمنية بالتدخل التعسفي في عمل الجمعيات ومراقبتها بصورة مستمرة". هذه الممارسات، بحسب العفو الدولية، "تخنق العمل الحيوي للجمعيات، وتخلق مناخاً من الخوف والترهيب".

 

قانون قمعي يتحايل على الدستور

 

قانون الجمعيات لسنة 2019 ليس مجرد "تنظيم" للعمل الأهلي كما تزعم الحكومة، بل هو أداة قمع ممنهجة تتحايل على المادة 75 من الدستور التي تنص على منح الشخصية الاعتبارية للجمعيات بمجرد الإخطار. بدلاً من ذلك، تفرض الوحدة المركزية للجمعيات بوزارة التضامن "إجراءات للترخيص المسبق تُخالف المعايير الدولية ونصوص الدستور المصري نفسه".

 

هذا النظام الاستبدادي يمنح الدولة صلاحيات مطلقة: رفض أو تأخير تسجيل الجمعيات، فرض قيود على عملها، منع التمويل، التدخل في تشكيل مجالس الإدارة، بل وحتى عزل أعضائها. والأخطر من ذلك أن القانون يتيح للمسؤولين دخول مقار الجمعيات دون إخطار مسبق، وتفتيش وثائقها، مع فرض عقوبات تصل إلى 500 ألف جنيه على أي موظف يرفض تمكين "الجهة الإدارية" من متابعة وفحص أعمال الجمعية.

 

الأمن الوطني: السلطة الفعلية فوق القانون

 

لكن الكارثة الحقيقية لا تكمن في القانون وحده، بل في "التدخل غير المشروع من قبل قطاع الأمن الوطني" الذي يمارس "مضايقات بحق أعضاء الجمعيات عبر مكالمات هاتفية تهديدية واستدعاءات غير رسمية واستجوابات تحت الإكراه". هذه الممارسات القمعية تكشف أن السلطة الفعلية في مصر ليست للحكومة أو القانون، بل لجهاز أمني خارج عن أي رقابة يتحكم في كل شيء بما في ذلك المجتمع المدني.

 

أحكام القضاء الإداري استقرت قبل القانون الحالي على "بطلان التدخلات الأمنية في إجراءات تأسيس وانتخاب أعضاء مجلس إدارات الجمعيات"، لكن حكومة الانقلاب تجاهلت كل هذه الأحكام وشرّعت التدخل الأمني بموجب القانون الجديد. والنتيجة: جمعيات مسجلة تعيش تحت "سيطرة شبه كاملة" من الوحدة المركزية والأمن الوطني، الذي يقوم "بصورة روتينية بمضايقة وترهيب موظفين وأعضاء في مجالس إدارات جمعيات مستقلة".

 

قضية 173: إغلاق صوري وقمع مستمر

 

رغم إغلاق القضية 173 (قضية التمويل الأجنبي) في مارس 2024 بعد 13 عاماً من "تحقيقات لا أساس لها"، ورفع قرارات حظر السفر وتجميد الأصول عن بعض العاملين في الجمعيات، إلا أن هذه الخطوة "الإيجابية" لم تغير شيئاً من واقع القمع الممنهج. فالقانون رقم 149 لسنة 2019 يمنح السلطات "قبضة خانقة على الجمعيات المستقلة"، والأمن الوطني يواصل ممارساته الترهيبية والقسرية دون أي محاسبة.

 

حسام بهجت، المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، قال عند إغلاق القضية إنه "سعيد برفع الظلم ورد الاعتبار، في انتظار اعتذار السلطات عن الضرر المعنوي والمادي". لكن لم يأت أي اعتذار، بل استمر القمع بأدوات جديدة أكثر فتكاً وقانونية ظاهرية.

 

تقييد التمويل: خنق مالي ممنهج

 

يشترط القانون حصول الجمعيات على "موافقة مسبقة قبل تلقي أي تمويل أجنبي"، ويجيز للوحدة المركزية الاعتراض خلال 60 يوماً "دون تقديم مسوغات واضحة وقانونية، مما يمنح الدولة فعلياً حق النقض في ما يخص الموارد الخارجية". الجمعيات التي تتلقى تمويلاً دون موافقة تواجه خطر "تعليق الأنشطة أو الحل"، بينما يواجه موظفوها أو مديروها "عقوبات مالية" باهظة.

 

هذا الخنق المالي المتعمد يهدف إلى تجفيف منابع التمويل عن الجمعيات المستقلة، خاصة الحقوقية منها، لإجبارها إما على الانصياع الكامل لسيطرة الدولة أو التوقف عن العمل. والمفارقة أن الحكومة نفسها تستقبل عشرات المليارات من القروض والمنح الأجنبية دون أي "موافقة مسبقة" من أحد، بينما تمنع جمعية صغيرة من تلقي بضعة آلاف من الدولارات لمشروع تنموي.

 

تجريم الأنشطة الحقوقية والسياسية

 

يحصر القانون عمل الجمعيات في "تنمية المجتمع"، بما "يحظر فعلياً الأنشطة الحقوقية والأنشطة 'السياسية' بموجب ذرائع فضفاضة، من بينها 'الوحدة الوطنية'". هذا التقييد الفاضح يعني أن الجمعيات الحقوقية التي تراقب انتهاكات حقوق الإنسان أو تنتقد السياسات الحكومية تُعتبر خارجة عن القانون وتواجه خطر الحل والملاحقة القضائية.

 

كما يتيح القانون للحكومة "رفض تسجيل جمعية في غضون 60 يوماً إذا كانت أي من أهدافها مخالفة للقوانين المصرية، التي يتعارض العديد منها مع القانون الدولي". هذه المادة المطاطة تمنح السلطات صلاحية رفض أي جمعية لا تعجبها تحت أي ذريعة، وتحول التسجيل من "إخطار" دستوري إلى "امتياز" تمنحه الدولة لمن يطيعها.

 

التسجيل الإلزامي أو الحل: ابتزاز قانوني

 

يشترط القانون تسجيل جميع الجمعيات بموجب أحكامه، بما في ذلك المسجلة مسبقاً، "وإلا فإنها تكون عرضة للحل". بعض الجمعيات سجلت "للحصول على قدر من الحماية من مضايقات الأجهزة الأمنية أو للحفاظ على أهليتها للحصول على التمويل"، بينما شعرت أخرى "بأنه لا خيار أمامها بسبب العقوبات المترتبة على عدم الامتثال".

 

جمعيات أخرى مسجلة كمكاتب محاماة أو شركات غير ربحية رفضت التسجيل "خشية أن تؤدي قيود القانون إلى الحد من عملها". لكن القانون الدولي واضح: "لا يجوز أبداً إلزام الجمعيات بالتسجيل ضمن إطار قانوني محدد أو تجريمها بسبب افتقارها إلى الوضع القانوني". حكومة الانقلاب تضرب بالقانون الدولي عرض الحائط وتفرض نظامها القمعي بالقوة.

 

مستقبل الحيز المدني في خطر

 

عشر منظمات حقوقية أعلنت عام 2019 رفضها الكامل للقانون، واصفة إياه بأنه "إعادة تسويق للقانون القمعي الذي يحمل الفلسفة العدائية لمنظمات المجتمع المدني بهدف إخضاعها للأجهزة الأمنية". بعد ست سنوات، تؤكد منظمة العفو الدولية أن القانون "يُعرّض مستقبل الحيز المدني في البلاد للخطر". حكومة الانقلاب، التي لا تطيق أي صوت مستقل، تستخدم القانون والأمن لخنق المجتمع المدني وتحويل مصر إلى دولة بوليسية يخضع فيها كل شيء لأوامر جهاز أمني خارج عن أي رقابة أو محاسبة. والعنوان الفاضح للتقرير "'اللي الأمن يقوله يتعمل'" يلخص واقع مصر تحت حكم السيسي: دولة لا يحكمها دستور ولا قانون، بل أوامر ضابط أمن.