في سابقة قانونية وسياسية لا تقل عبثية عن واقع العدالة في مصر ما بعد 2013، قرر القضاء المصري إحالة الدكتور أحمد التهامي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإسكندرية، إلى المحاكمة، بعد أكثر من خمس سنوات ونصف من الحبس الاحتياطي، دون محاكمة أو تهمة موثقة.

 

التهامي، الذي اعتُقل في 3 يونيو 2020، ظل محتجزًا لأكثر من 2000 يوم، لم يُعرض خلالها على المحكمة سوى مرة واحدة، ضمن ما بات يُعرف بـ"الاحتجاز الاحتياطي التأديبي"، الذي يُستخدم سياسيًا لتصفية الحسابات مع كل من يُبدي رأيًا مستقلًا.

 

خبير سياسي خلف القضبان… بلا انتماء سوى للعلم

 

الدكتور أحمد التهامي ليس ناشطًا سياسيًا ولا عضوًا في حزب أو حركة معارضة. هو أكاديمي وباحث مرموق، شغل مناصب بحثية رفيعة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ومركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

 

ما يزعج السلطة ليس انتماءه، بل استقلاله الأكاديمي ونزاهته الفكرية. فحسب روايات مقربين من القضية، فإن احتجازه جاء نتيجة الاشتباه في منشورات على فيسبوك فُسّرت أمنيًا بأنها تُظهر تعاطفًا مع دعوى قانونية رُفعت ضد رئيس وزراء سابق في الخارج، وهي قراءة "مزاجية" لم تُقدَّم بشأنها أي أدلة حقيقية.

 

ومع غياب أي نشاط سياسي أو تحريضي مثبت، لم تجد الأجهزة الأمنية سوى اللجوء إلى التهم النمطية الجاهزة:

 

  • الانضمام إلى جماعة إرهابية
  • نشر أخبار كاذبة
  • إساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي

 

ثلاث تهم "منسوخة/مكررة" تُستخدم لإغلاق أي ملف لا ترضى عنه السلطة.

 

قرار الإحالة... بعد سنوات من العقاب خارج إطار المحاكمة

 

بعد أكثر من خمس سنوات ونصف، صدر أخيرًا قرار بإحالته إلى المحاكمة أمام محكمة الجنايات، بالتهم الثلاث المشار إليها.

 

قرار الإحالة ليس تطورًا قانونيًا، بل شرعنة متأخرة لجريمة احتجاز مطوّل خارج القانون.

 

فالمفترض، دستوريًا، ألا يتجاوز الحبس الاحتياطي عامين كحد أقصى، لكن النيابة تجاوزت هذا الحد بثلاث سنوات إضافية، دون مرافعة، أو استدعاء، أو مبرر قانوني.

 

أخطر ما في هذه الإحالة أنها تأتي بعد أن فشل النظام في كسر الرجل نفسيًا أو إرغامه على الاعتراف أو الاعتذار، إذ لم يُمنح التهامي فرصة للمرافعة عن نفسه، بل سُجن في عزلة تامة، دون تحقيقات حقيقية، ودون حضور أمام قاض إلا مرة يتيمة.

 

الرسالة: لا مكان في مصر لعقل مستقل

 

التهامي اليوم يُحاكم لا لأنه خطير، بل لأنه يفكّر خارج الخط الرسمي، ولا يكتب بإملاءات الأمن.

 

إن محاكمة رجل لم يرتكب أي جريمة مثبتة، ولم يُعرف عنه سوى عمله الأكاديمي، هي رسالة تهديد مباشرة لكل باحث أو أكاديمي أو حتى مواطن عادي: "لا تنتقد، لا تكتب، لا تشارك، لا تعلّق... وإلا فالبديل زنزانة مفتوحة إلى أجل غير مسمى".

 

هذه ليست محاكمة، بل نموذج واضح لتجريم التفكير، وقتل المجال العام، وترسيخ قاعدة أن السكوت وحده هو النجاة.

 

في مصر 2025... الحبس هو القاعدة، والحرية هي الاستثناء

 

قضية أحمد التهامي لا تتعلق بفرد، بل تعرّي نظامًا كاملًا اختزل الدولة في جهاز أمني، والعدالة في ملفات جاهزة، والحياة السياسية في صمت جماعي مفروض بالقوة.

 

بينما يتحدث النظام عن "جمهورية جديدة" و"حوار وطني"، تظل ساحات المحاكم مليئة بأصحاب الرأي، والمعتقلات مكتظة بالعقول.

 

التهامي ليس وحده. هناك آلاف أمثاله. لكن محاكمته ـ بعد سنوات من العقوبة دون تهمة ـ ستكون وصمة في سجل هذه السلطة إلى أمد بعيد.