وسط تدهور متواصل في حقوق العمال وتجاهل ممنهج لمطالبهم، تفجّرت أزمة جديدة في شركة القناة لرباط وأنوار السفن، التابعة لهيئة قناة السويس، حيث دخل مئات العمال في إضراب واعتصام مفتوح، احتجاجًا على تقليص أرباحهم السنوية إلى النصف، في خطوة اعتبرها مراقبون انعكاسًا صارخًا لسياسات رسمية تتجاهل العدالة الاجتماعية وتكرّس القمع الأمني على حساب الحوار.

 

خفض الأرباح والحوافز.. قرار أحادي يفجّر الاحتجاجات

اتخذت إدارة شركة القناة لرباط وأنوار السفن قرارًا بتقليص الأرباح السنوية والحوافز الموزعة على الأجر بنسبة 50%، دون أدنى تنسيق أو تشاور مع ممثلي العمال، حسبما أكد بيان صادر عن المفوضية المصرية للحقوق والحريات.

هذا القرار الأحادي فجر موجة غضب واسعة بين العاملين، دفعتهم إلى تنظيم إضراب عن العمل واعتصام مفتوح داخل مقر الشركة في محافظة بورسعيد، وسرعان ما انضم إليهم زملاؤهم من فرع السويس، في مشهد يعكس مدى الاحتقان العمالي في ظل انعدام آليات حقيقية للتفاوض.

 

1500 عامل يحتجون.. والحكومة ترد بالأمن والاعتقالات

بدلًا من الاستجابة السريعة أو فتح باب الحوار، اختارت الدولة كعادتها الأسلوب الأمني، حيث طوّقت قوات الأمن مقر الشركة ومنعت الدخول والخروج، وألقت القبض على أحد العمال المشاركين في الاعتصام، قبل أن تُفرج عنه لاحقًا تحت الضغط. في ممارسات تكرّس النهج القمعي في مواجهة المطالب الاجتماعية.

وذكر بيان دار الخدمات النقابية والعمالية أن قوات الأمن منعت أيضًا عمال مكاتب الإدارة من الانضمام لزملائهم المضربين، ما عزز الشعور بالحصار والقمع داخل أروقة الشركة، وجعل من الإضراب قضية رأي عام تتعلق بالحريات الأساسية لا بمجرد خلاف إداري.

بحسب حسين المصري، منسق برنامج التدريب النقابي بدار الخدمات النقابية والعمالية، فإن عدد العاملين في الشركة ببورسعيد والسويس يبلغ نحو 1500 عامل، وقد باتوا معتصمين داخل مقر الشركة منذ ليلة الأربعاء، بعد وصول أوتوبيسين يقلان عددًا كبيرًا من العمال من السويس.

 

رئيس هيئة القناة يتهرب.. ولا مفاوضات حتى الآن

رغم تصاعد الأزمة، ومرور أكثر من 24 ساعة على بدء الإضراب، لم تجرِ أي مفاوضات رسمية مع العمال حتى لحظة كتابة التقرير. وقد رفض الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، مقابلة ممثلي العمال، حسب ما نقلته سكرتارية مكتبه، متذرعين بأنه "غير موجود"، في تجاهل فجّ يفتقر لأدنى درجات المسؤولية الإدارية والاجتماعية.

يؤكد مصدر في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، على اتصال مباشر بالعمال، أن المعتصمين لا ينوون اتخاذ إجراءات قانونية في الوقت الحالي، ويفضلون التفاوض، ولكنهم لا يستبعدون خيار التصعيد في حال استمرار التعنت، فيما أعلنت المفوضية أنها ستتبنى أي مسار قانوني يقرره العمال في مواجهة إدارة الشركة.

 

المفوضية تحذّر: القمع لا يجلب إلا الانفجار الاجتماعي

في بيانها الحاد، حمّلت المفوضية المصرية للحقوق والحريات الدولة مسؤولية تفاقم الأزمة بسبب اعتمادها على الحلول الأمنية بدلًا من الحوار. وأكدت أن هذه الممارسات "لا تزيد الأوضاع إلا احتقانًا"، وتنتهك التزامات مصر الدولية المتعلقة بحرية التنظيم النقابي، والتعبير، والحق في التفاوض الجماعي، مشيرة إلى أن هذا النمط من المعالجة ينذر بتهديد الاستقرار والسلم الاجتماعي.

وطالبت المفوضية بفتح تحقيق عاجل في قرارات الإدارة، ومحاسبة المسؤولين عن تقليص الأرباح دون تشاور، كما دعت إلى إعادة تطبيق اللائحة الداخلية القديمة وصرف الأرباح والحوافز وفق النظام المعمول به سابقًا، وضرورة احترام حقوق العمال لا التلاعب بها تحت مسمى "الهيكلة" أو "إجراءات داخلية".

 

دعوات للتدخل العاجل.. فهل تستمع الدولة؟

من جانبها، دعت دار الخدمات النقابية والعمالية الجهات المسؤولة وعلى رأسها وزارة العمل، إلى التدخل الفوري لإنهاء الأزمة، ووقف استخدام القوة الأمنية ضد العمال، واعتماد آليات التفاوض الجماعي. لكن التجارب السابقة تشير إلى أن استجابة الحكومة غالبًا ما تأتي متأخرة، إن أتت على الإطلاق.

 

شركة استراتيجية.. فشل إداري

تأسست شركة القناة لرباط وأنوار السفن عام 1962، وتعد إحدى الشركات التابعة لهيئة قناة السويس، وتعمل في مجالات استراتيجية تشمل ربط السفن العابرة للقناة وتزويدها بالأنوار، إضافة إلى مد مواسير المياه والكهرباء والغاز تحت الأرض وعلى أعماق تصل إلى 35 مترًا.

يبلغ رأس مال الشركة الحالي 100 مليون جنيه، ومع ذلك، يُحرم العاملون فيها من أرباحهم المشروعة، في نموذج صارخ للفشل الإداري والتضييق الممنهج على حقوق الطبقة العاملة.

 

دولة لا تتفاوض

في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون الدولة حامية لحقوق مواطنيها، تتعامل الحكومة مع مطالب مشروعة من 1500 عامل وكأنها تهديد أمني. تُستخدم القبضة الأمنية حيث يجب أن يسود الحوار، ويُتهم العمال بالتمرد بينما يمارسون حقهم في الاعتصام. ما يحدث اليوم في بورسعيد والسويس ليس مجرد أزمة داخل شركة، بل مرآة لأزمة أعمق في العلاقة بين الدولة والطبقة العاملة.