د. نورة سليمان عبدالله
محاضرة سعودية
من كمال عقل المرء أن يدرك أن أفعال من حوله لن تجري كما يريد ويتصور، ولن تجد أحدًا مثاليًّا ورائعًا من جميع الجوانب، ولا بد من تقبُّل النقص فيهم، حتى يتقبَّله الآخر منك.
ولنجعل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن كرِه منها خُلقًا رضِي منها آخر))، قاعدة في تقبل "ما لا نحبه" في العلاقات الاجتماعية.
فما المقصود بالعلاقات الاجتماعية؟
العلاقات الاجتماعية هي: الروابط والتفاعلات التي تحدث بين شخصين أو أكثر، داخل المجتمع، وتشمل الأنشطة والتواصل اليومي مع أشخاص مقربين؛ مثل: العائلة والأزواج، والأصدقاء، والزملاء، والجيران، وتقوم هذه العلاقات على التواصل والتفاعل.
وما أهمية هذه العلاقات؟
لقد بيَّن الله عز وجل أن العلاقة بين البشر تقوم على أساس التعارف والتكامل، وأن ميزان الأفضلية هو التقوى والعمل الصالح؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].
وكذلك جاءت التوجيهات النبوية والأحاديث الكثيرة التي تحُث المسلم على بناء العلاقات الإيجابية، وتقوِّي صف المؤمنين، وتجعله جزءًا من الجماعة الفاعلة بعيدًا عن الفردية والانطواء، ومن هذه الأحاديث: حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى)).
وتتنوع العلاقات الاجتماعية؛ فمن علاقة مع الوالدين، والعلاقة مع الأرحام، والعلاقة مع المجتمع، والعلاقة الأسرية؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
ولأن الأسرة هي اللبنة الأولى في المجتمع، وصلاحها يعني صلاح المجتمع بأكمله، فمن هنا جاء اهتمام الإسلام بالأسرة، فوُضعت الأسس التي تضمن سلامة الأسرة، وشُرعت الأحكام، لتبقى الأسرة الحِضنَ الدافئ والطبيعي للأبناء، وتنمِّي القيم والأخلاق، والعادات والتقاليد، ومشاركة في المجتمع بأجيال مؤمنة متزنة ومِعطاءة.
ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تماسك الأسرة، ومن ذلك الإحسان إلى الزوجات، والرفق بالأبناء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرَك مؤمن مؤمنةً، إن كرِه منها خلقًا، رَضِيَ منها آخر، أو قال: غيره))؛ أي: ينبغي للزوج ألَّا يُبغض زوجته بغضًا شديدًا يؤدي إلى ظلمها وتركها وإعراضه عنها، وذلك لأنه وجد فيها خُلقًا سيئًا، فلا بد أن يكون فيها خلق مَرضيٌّ، كأن تكون شرسة الخلق، لكنها ديِّنة، أو جميلة، أو عفيفة، أو رفيقة به، أو نحو ذلك، فيرضى بهذا الخلق الحسن الذي يوافقه، فيقابل هذا بذاك، فيحمله ما رضيَ من الحسَن، على الصبر على ما لا يرضى من السيئ، فيغفر سيئها لحسنها، ويتغاضى عما يكره لما يحب، فلا يبغضها بغضًا كليًّا يحمله على فراقها، وهذا فيه الحثُّ على حسن العشرة والصحبة، وأيضًا هو قد يكون لديه مثلها أخلاق سيئة تقابَل بأخرى حسنة، لتدوم العشرة والحياة الزوجية بتناغم وانسجام، وكذلك في جميع العلاقات البشرية.
يقول الشيخ السعدي في كتابه (الوسائل المفيدة في الحياة السعيدة): "فائدتان عظيمتان تُستفاد من هذا الحديث:
1- الإرشاد إلى معاملة الزوجة، والقريب والصاحب، وكل من بينك وبينه علاقة واتصال، وأنه ينبغي أن توطِّن نفسك على أنه لا بد أن يكون فيه عيب أو نقص أو أمر تكرهه، فإذا وجدت ذلك، فقارن بين هذا وبين ما ينبغي لك من قوة الاتصال، والإبقاء على المحبة بتذكر ما فيه من المحاسن، وبهذا تدوم الصحبة، وتتم الراحة.
2- زوال الهم والقلق، وبقاء الصفاء، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، وحصول الراحة بين الطرفين، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، بل عكس القضية، فلحظ المساوئ، وعميَ عن المحاسن، فلا بد أن يقلق، ولا بد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، ويتقطع كثير من الحقوق التي على كلٍّ منهما المحافظة عليها".
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

