في مشهد غير مسبوق، تحوّل مولد السيد البدوي هذا العام إلى حدث رسمي ضخم ترعاه الحكومة بكل أجهزتها الإعلامية والدينية، في وقتٍ يعيش فيه المواطن أزمات اقتصادية خانقة وقرارات متتالية برفع الأسعار. هذا المشهد الذي وصفه كثيرون بأنه “كربلاء مصرية برعاية السيسي”، يعكس تحولاً خطيراً في أولويات الدولة، من رعاية مصالح الناس إلى الاستثمار في الطقوس والمواكب التي تغذي الجهل وتعيد إنتاج الخرافة تحت مظلة “التراث الروحي”.
منذ عقود يحتفل المصريون بمولد السيد البدوي في طنطا، لكن لم يشهد هذا الاحتفال يوماً مثل هذا الزخم الإعلامي والسياسي. للمرة الأولى يُبث المولد على القنوات الرسمية، وتُقام حلقات تلفزيونية مطولة تتحدث عن “كرامات الشيخ”، ويُشارك وزير الأوقاف وكبار رجال الأزهر وشيوخ الصوفية، بينما تتسابق الصحف لتغطية مشاهد الرقص والإنشاد والموالد، وكأنها “مهمة قومية”. كل هذا يحدث بينما تغيب الدولة تماماً عن الرقابة على مظاهر الانفلات والعبث التي تحولت إلى مادة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي.
🚨 كربلاء المصرية ..
— شيرين عرفة (@shirinarafah) October 18, 2025
برعاية السيسي ونظامه
■ لأول مرة في تاريخ مصر
يحظى الاحتفال بمولد السيد البدوي (والذي يتكرر سنويا في مصر منذ عشرات السنين) على هذا الزخم الإعلامي والتغطية الصحفية والدعاية والترويج له ولأحداثه بهذا الشكل المكثف والمثير، حيث تم نشر وإذاعة العديد من حفلات… pic.twitter.com/lk2gqx3YSM
اللافت أن رعاية الدولة لهذا الحدث لم تكن بريئة أو عشوائية، بل منظمة ومدروسة. فالمولد لم يكن مجرد تجمع ديني شعبي، بل مشروع اقتصادي وسياسي في آن واحد. صناديق النذور المنتشرة حول المسجد تجمع ملايين الجنيهات من الزائرين، توزعها الدولة على عدة جهات حكومية: وزارة الأوقاف، الأزهر، وزارة التنمية المحلية، وزارة الثقافة، والمجلس الأعلى للطرق الصوفية. بمعنى آخر، الدولة أصبحت شريكاً مباشراً في “تجارة الموالد” التي يفترض أنها طقوس روحية، لا مشاريع مالية.
لكن الأخطر من الجانب المالي هو ما يحمله المشهد من دلالات سياسية ودينية. فبينما تتراجع مكانة التعليم والدين الوسطي وتتزايد نسب الفقر والبطالة، تختار الحكومة أن تروّج لمظاهر الشرك والخرافة باسم “الهوية الدينية المصرية”. وكأن النظام يريد أن يعيد تشكيل الوعي الجمعي ليقبل بالاستسلام والجهل كبديل عن التفكير والمطالبة بالإصلاح. هكذا يُغرق المواطن في أجواء الموالد والرقصات الصوفية، بينما تُدار خلف الكواليس قرارات رفع البنزين وأسطوانات الغاز.
ولم يكن التوقيت صدفة. فخلال ذروة احتفالات المولد، أصدرت الحكومة قرارات جديدة برفع أسعار المحروقات، في خطوة تضاف إلى سلسلة من الإجراءات التي أثقلت كاهل المواطنين. وكأن الهدف هو صرف الأنظار عن الأزمات اليومية، بإلهاء الناس في “مولد” ضخم يغطي على مشهد الغلاء والانهيار المعيشي. وكما قال السيسي سابقاً: “زود البنزين يا باشمهندس طارق، ما تقلقش” — يبدو أن لا أحد قلق فعلاً، طالما أن الجماهير مشغولة بالمواكب والإنشاد.
إن مشهد “كربلاء المصرية” في طنطا لم يكن مجرد احتفال ديني، بل انعكاس لحالة من التوظيف السياسي للدين الشعبي. فالنظام الذي فشل في تحسين معيشة الناس، وجد في الموالد وسيلة لصناعة الولاء وتفريغ الغضب الشعبي في طقوس فولكلورية تباركها الدولة. وبذلك يتحول الدين إلى أداة للسيطرة لا للهداية، والاحتفال إلى وسيلة للتنفيس لا للتقوى.
وفي ظل هذا الانشغال الرسمي بتلميع الخرافة، تظل قضايا التعليم والصحة والفقر بلا حل، وتستمر الأسعار في الارتفاع، فيما تستثمر السلطة في “المشهد الديني” كواجهة براقة تخفي وراءها واقعاً مريراً.
ختاماً، يمكن القول إن ما جرى في مولد السيد البدوي هذا العام لم يكن مجرد احتفال شعبي، بل حدث سياسي بامتياز، يكشف كيف أصبح النظام يوظف الدين الشعبي لتثبيت شرعيته، بينما يترك المواطن يغرق بين الغلاء والخرافة. إنها “كربلاء مصرية” بالفعل، ولكن ليس في حب الأولياء، بل في دفن العقل والوعي تحت أقدام السلطة.