أثارت صور حديثة للأقمار الصناعية تُظهر إغلاق إثيوبيا لجميع بوابات سد النهضة، موجة من القلق البالغ في مصر والسودان، وسط تحذيرات من أن الخطوة تمثل تصعيدًا خطيرًا في إدارة أديس أبابا الأحادية للسد، وبداية مرحلة جديدة من التحكم الكامل في تدفق مياه النيل الأزرق، بما قد يهدد مستقبلاً إمدادات المياه الحيوية لدولتي المصب.
ويأتي هذا التطور في ظل صمت رسمي مصري وغياب أي تحرك فعّال من الحكومة أو الخارجية، رغم ارتباطه المباشر بأمن مصر المائي.
وتزامنت هذه الصور مع فيضانات غير مسبوقة شهدتها مناطق عدة في السودان ومصر، ربطها خبراء مصريون بـسوء إدارة إثيوبيا لتشغيل السد، مؤكدين أن غياب اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل السد يضاعف من حجم الخطر.
شراقي: إثيوبيا تعيد التخزين وتربك دول المصب
أكد الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، أن تحليل صور الأقمار الصناعية الأخيرة يُظهر أن جميع بوابات تصريف المياه مغلقة تمامًا، ما أدى إلى انخفاض كميات المياه المتدفقة إلى حوالي 50 مليون متر مكعب يوميًا، رغم أن هطول الأمطار يبلغ نحو 250 مليون متر مكعب.
وأوضح شراقي أن هذا يعني عمليًا أن إثيوبيا تعيد تخزين المياه من الأمطار الحالية، محذرًا من استمرار “الارتباك” في إدارة تشغيل السد.
وأضاف أن وضع التوربينات لا يزال غامضًا، وأن السودان يدفع ثمن هذه الأخطاء التشغيلية.
غلق جميع بوابات سد النهضة مع استمرار التخبط فى إدارته
وكشف شراقي أن صور الأقمار الصناعية أظهرت اليوم 10 أكتوبر غلق جميع بوابات المفيض فى سد النهضة، وانخفض التصريف إلى أقل منه قبل الافتتاح فى 9 سبتمبر الماضى، حيث انخفض في 8 أكتوبر إلى 135 مليون م3 طبقا لبيانات وزارة الزراعة والرى السودانية وبالتالى فإن الإيراد اليوم يقدر بأقل من 50 مليون م3، حيث توجد دوامات خفيفة لاترقى إلى تشغيل توربين واحد، معنى ذلك أن هناك جزء من مياه الأمطار الحالية والتى تصل إلى 250 مليون م3 يعاد تخزينه.
وأضاف الخبير المائي أنه تراوح معدل التصريف من سد النهضة بعد الافتتاح من 500 مليون م3 إلى أكثر من 750 مليون م3/يوم أيام الفيضان فى الخرطوم (23 سبتمبر – 1 أكتوبر)، وبدأ تخفيض الفيضان من 400 مليون م3/يوم فى أول أكتوبر إلى أقل من 50 مليون م3 اليوم 10 أكتوبر.
ولفت أنه مازال موقف التوربينات من التشغيل غامضًا، والتخبط فى إدارة تشغيل السد مستمرًأ، وللأسف السودان هو الذى يدفع ثمن أخطاء تشغيل سد النهضة، لابد تصريف كمية الأمطار الحالية بالكامل سواء من خلال التوربينات أو من فتح بوابة من المفيض العلوى، وإلا سوف يمتلئ الخزان عن آخره فى نهاية الشهر، معدل الأمطار فى حوض النيل الأزرق يتناقص تدريجيا وسوف يصل إلى 150 مليون م3 بنهاية أكتوبر، و50 مليون م3 نهاية نوفمبر.
ودعا شراقي إلى تصريف المياه عبر التوربينات أو فتح إحدى البوابات العليا لتفادي تفاقم الفيضانات، محذرًا من أن ملء الخزان إلى أقصى مستوى “قد يؤدي إلى كوارث مائية جديدة خلال الأسابيع المقبلة”.
تحذيرات من فيضان وجفاف في آن واحد
يتفق الخبراء على أن الإدارة الأحادية الإثيوبية للسد تمثل خطرًا استراتيجيًا على مصر والسودان، لكنهم يختلفون في تقدير طبيعة هذا الخطر المباشر.
الدكتور محمد نصر الدين علام، وزير الري الأسبق، حمّل إثيوبيا مسؤولية الفيضانات الأخيرة، مشيرًا إلى أنها “قلّلت التصريف المائي في أغسطس وسبتمبر، ثم أغلقت السعة المخصصة للطوارئ، ما اضطرها لاحقًا لتفريغ كميات هائلة وصلت إلى 750 مليون متر مكعب يوميًا”، وهو ما تسبب في غمر مناطق واسعة.
وأضاف علام أن الخطر الأكبر لمصر سيكون خلال فترات الجفاف الممتد، حين قد تعمد أديس أبابا إلى حجز المياه لتعظيم إنتاج الكهرباء على حساب حصص دول المصب.
أما الدكتور جمال صيام، خبير الاقتصاد الزراعي، فاعتبر أن السد ربما خفف جزئيًا من حدة الفيضانات، لكنه شدد على أن إثيوبيا “أثبتت قدرتها على استخدام المياه كورقة ضغط سياسية ضد مصر”، مشيرًا إلى أن الإطلاقات المفاجئة قد تتسبب في دمار للبنية التحتية الزراعية والمائية.
من جانبه، وصف وزير الموارد المائية والري الحالي هاني سويلم، التصرفات الإثيوبية بأنها “إجراءات أحادية متهورة مخالفة للقانون الدولي”، مشددًا على أنها “تفتقر إلى أبسط قواعد الشفافية وتمثل تهديدًا مباشرًا لأمن وسلامة شعوب دول المصب”.
واعتبر الدكتور نادر نور الدين، أستاذ الموارد المائية، أن مصر تواجه خطرًا مزدوجًا: الفيضانات المدمرة نتيجة الإطلاقات غير المنسقة، والجفاف القاسي حال قررت إثيوبيا حجب المياه.
وأضاف أن غياب اتفاق ملزم “يجعل مصر رهينة لقرارات أديس أبابا السياسية”.
غياب الاتفاق... والعجز السياسي
يجمع الخبراء على أن غياب الاتفاق القانوني الملزم بين الدول الثلاث هو جوهر الأزمة، وأن استمرار المفاوضات دون نتائج حقيقية يعكس فشلًا دبلوماسيًا مصريًا متكررًا في إدارة الملف.
ويرى مراقبون أن تجاهل الحكومة للتحركات الإثيوبية الأخيرة يفتح الباب أمام كارثة مائية وبيئية ويفقد القاهرة أوراق الضغط المتبقية.
فبينما تمضي أديس أبابا في فرض واقع جديد على النيل، تكتفي الحكومة المصرية بإصدار بيانات تنديد شكلية، في وقت باتت فيه مياه النيل نفسها رهينة للقرارات الإثيوبية.